الغنوشي في البرلمان.. رحلة الخروج من الخفاء إلى العلن

لماذا نزع زعيم النهضة جبة المرشد الزاهد في ملذات السلطة.
الخميس 2019/11/14
خطوات بحسابات داخلية وخارجية

اتجهت الأنظار في تونس الأربعاء، إلى الجلسة العامة في مجلس نواب الشعب التي خُصّصت لمراسم تسليم وتسلم السلطة بين أعضاء البرلمان القديم والجديد. هذه الجلسة بدت في ظاهرها شكلية وبروتوكولية لأداء اليمين الدستورية، لكنها مثّلت في الحقيقة إعلانا رسميا لساعة الحقيقة كونها كشفت شكل التحالفات بما ظهر منها وما خفي داخل المجلس الجديد خاصة بعد انتخاب راشد الغنوشي رئيسا للبرلمان الجديد، لكن بعيدا عن كل هذا الجدل، فإن السؤال المفصلي الذي يقود حتما لاستكشاف ماهو أهم في مناورات السياسة وتكتيكاتها لا تخرج استفساراته عن مردّ هبة رئيس حركة النهضة الإسلامية لنزع جبّة “الزعيم” ونزوله ليمارس السياسة لأول مرة في تاريخه من داخل أجهزة الدولة معلنا خروجه من الخفاء إلى العلن.

تونس - دخلت تونس الأربعاء مرحلة جديدة طُويت فيها صفحة برلمان 2014 وفتحت بداية عهدة برلمان جديد سيترأسه رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، لتمضي البلاد في مرحلة مغايرة لما سبق من حيث الأسماء، لكنها تحمل نفس خيارات ما بعد انتخابات 2014 القائمة على أساس “التوافق” بين الرابح في الانتخابات والخاسر فيها.

إن الذهاب بعمق لأخذ صورة مكتملة الأركان عن البرلمان الجديد، لا يتعلق فحسب بمسألة رئاسة الغنوشي للبرلمان ولا ينحصر فقط في طرح السؤال، ماذا سقدم رئيس حركة النهضة الذي أوصلته كتل برلمانية مختلفة التوجهات لاعتلاء كرسي مجلس نواب الشعب في الخمس سنوات المقبلة.

إن حركة النهضة ستسيطر وتتغول مجدّدا على الحكم في تونس بحكم ما تمتلكه من كتل برلمانية احتياطية كائتلاف الكرامة أو بعض المستقلين، إذن إن الطرح الأسلم لدى تحليل تطورات الأحداث يجب أن يركز على البحث بفطنة وبمراكمة تُفكّك تسلسل الأحداث منذ اندلاع ثورة يناير 2011 لا فقط في علاقة بصراع الغنوشي ومكابدته لترؤس البرلمان بل في دخوله أصلا إلى المجلس النيابي واقتحامه لأول مرة في تاريخه أجهزة الدولة ليمارس الحكم بصفة ميدانية وأمام أنظار الجميع وليس في الخفاء بل تحت قبة البرلمان.

ولا يمكن معرفة ما يدور في رأس زعيم حركة النهضة من مخططات سياسية، إلا بطرح السؤال عن مردّ تنازله عن مكانته التي يسوق لها أقرب المقربين منه على أنها تكاد تكون “مقدّسة” على شاكلة ما قاله مؤخرا القيادي العجمي الوريمي “الغنوشي أكبر من رئاسة الحكومة”. ولماذا نزل من برجه العاجي ليلتحم بصفة مباشرة تكاد تكون يومية وستمرر يوميا عبر شاشات التلفزيون مع نواب من مختلف المشارب الفكرية لا يخالفونه فقط في التصورات السياسية بل يرون فيه أنه لا يزال مرشد الإخوان المسلمين في تونس.

حين عاد الغنوشي بعد سويعات قليلة من الثورة التونسية التي أسقطت نظام زين العابدين بن علي، غصّ مطار تونس قرطاج الدولي بأنصار النهضة ليستقبلوا زعيمهم بترديد أناشيد دينية منها “طلع البدر علينا”. ركب الرجل موجة ثورة لم يشارك فيها وفاز حزبه في أول انتخابات تشريعية عام 2011 وكانت أمامه كل المفاتيح ليحكم تونس بصفة مباشرة لا من الغرف المظلمة.

حروب متعددة الأوجه

الغنوشي سيكون أمام تحدي الالتحام مع نواب من مشارب فكرية مختلفة لا يخالفونه فقط في التصورات بل يرون فيه أنه لا يزال مرشد الإخوان المسلمين في تونس
الغنوشي سيكون أمام تحدي الالتحام مع نواب من مشارب فكرية مختلفة لا يخالفونه فقط في التصورات بل يرون فيه أنه لا يزال مرشد الإخوان المسلمين في تونس

لقد كانت السلطة في أواخر عام 2011 ملقاة على قارعة الطريق أمام الغنوشي، لكنه اختار إظهار تزهّده في الحكم مروجا لصورة بين أنصاره مفادها أن زعيمهم ينظر إلى الدنيا بشكل مخالف لما سبق، قوامه التأمل في السلطة بعين الزوال وكل ذلك ترجمه بإهدائه على طبق من ذهب في بداية عهدة حكم “الترويكا” كل من المنصف المرزوقي رئاسة الجمهورية وحمادي الجبالي رئاسة الحكومة ومصطفى بن جعفر رئاسة البرلمان.

اختلفت الظروف في 2019، فدفع راشد الغنوشي بنفسه لأخذ قرار فاجأ حتى أنصاره بإعلانه الترشّح للانتخابات التشريعية، فرتب لنفسه كل السبل التي ستفتح له أبواب البرلمان على مصراعيها إلى درجة أن الحركة أنفقت من الأموال لحملة زعيمها الذي ترشح في الدائرة رقم واحد لتونس العاصمة أكثر مما رصدته من إمكانيات لدعم مرشّحها في الانتخابات الرئاسية عبدالفتاح مورو الذي أقرّ بهذه الحقيقة مؤخرا.

سيخوض الغنوشي في الخمس سنوات المقبلة، حروبا سياسية متعدّدة الأوجه، لا يمكن تحليلها إلا بالنظر إلى ما سيعترضه من مطبّات سياسية ستكون حتما في ثلاثة مستويات، فمجرّد دخوله البرلمان يعد بمثابة الإعلان المبطّن عن شنّه حربا تخص بيت النهضة الداخلي كما أنه إعلان عن بداية تلمّس مفاصل الدولة من الداخل في علاقة بالمهام الدستورية للبرلمان وكذلك في علاقة بمستقبل العلاقة والتطورات المرتقبة بين الرئاسات الثلاث في تونس.

كان رئيس حركة النهضة يتجهّز في العامين الماضيين على وجه التحديد، ليرسم صورة جديدة عن نفسه في أذهان التونسيين يقدم عبرها شخصه على أنه زعيم وطني بكل المقاييس، مستغلا في ذلك توظيفه القصدي للمعركة بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، فأخذ قبل عام من الانتخابات يجس النبض عبر الترويج لكونه سيكون مرشحا للرئاسية، لكنه فوجئ في ضوء استطلاعات داخلية بأنه سيدخل معركة خاسرة خاصة مع تأكّده أنه مرفوض لا فقط على مستوى شعبي واسع بل أيضا من داخل أسور النهضة نفسها، فعدل عن حلم قصر قرطاج ووجه بوصلته نحو قصر باردو (البرلمان).

لقد أدرك راشد الغنوشي، مع توسّع دوائر المعارضة له داخل حزبه أنه قد يجد نفسه مستقبلا خارج دوائر القرار في حركة خط بيديه قبل أربعة عقود أدبياتها وتوجهاتها العامة، خاصّة عبر وعيه التام بأنه بحلول عام 2020 لم يعد بإمكانه وفق لوائح المؤتمر العاشر لحركة النهضة الذي عقد في مايو 2016 أن يقدّم نفسه للمنافسة على منصب رئيس الحركة مرة أخرى.

هذا الشأن الداخلي جعل زعيم النهضة مهووسا ومحاصرا بتحديات المستقبل، وجعله يرفع شعارا بديلا عنوانه “الإكراهات تبيح المحظورات”، ما جعله يتمرّد على الجميع ولا يستمع إلى توصيات المقرّبين منه الذين أخبروه بعدم موافقتهم على ترشحه للبرلمان بعد مسيرة طويلة من الإرشاد والترفع عن المناصب سلكها لأكثر من أربعين عاما.

لقد أوصت قيادات نهضوية ومنها لطفي زيتون وعبداللطيف المكي وعبدالحميد الجلاصي ومحمّد بن سالم في إحدى دورات مجلس الشورى التي سبقت تشكيل القوائم الانتخابية للتشريعية رئيس الحركة بعدم الترشح للبرلمان، لكن الغنوشي كان يعلم أن من نصحوه هم من المعارضين لخطه السياسي، فكان ردّه عكسيا بشنّ حركة تصفية قام على إثرها بعزل خصومه بتغييره قائمة الأسماء التي كانت مطروحة لمن سترشحهم الحركة للانتخابات التشريعية.

لقد كان اختيار الغنوشي مبنيا على قاعدة ضمان مصلحته قبل مصلحة حركته، حيث زكّى أسماء لا يمكن أن تقلقه في المستقبل إن صعدت إلى البرلمان وهو ما تأكّد فعلا، فقائمة الـ52 نائبا نهضويا الذين دخلوا المجلس الجديد يعد أكثرهم من “الحمائم” وليسوا من “الصقور” وهم موالون للغنوشي لا لغيره من القيادات الغاضبة.

لقد كانت السلطة عام 2011 برئاساتها الثلاث ملقاة على قارعة طريق زعيم حركة النهضة، فلماذا اختار هذا التوقيت لخلافة مورو ولتجربة الحكم من داخل أجهزة السلطة
لقد كانت السلطة عام 2011 برئاساتها الثلاث ملقاة على قارعة طريق زعيم حركة النهضة، فلماذا اختار هذا التوقيت لخلافة مورو ولتجربة الحكم من داخل أجهزة السلطة

لقد دأب الغنوشي في الفترة النيابية الأخيرة بين 2014 و2019، على النزول بثقله إلى البرلمان فقط عند الحاجة وفي اللحظات الحاسمة ليغير نوايا التصويت لدى نواب النهضة على أي مشروع قانون مصيري، وهو ما حصل فعلا في عدة المرات خاصة عندما أقنع كتلة النهضة البرلمانية بالتصويت لفائدة مشروع قانون المصالحة الذي طرحه الباجي قائد السبسي في عام 2017.

لكن الوضع في 2019، سيختلف تماما حيث سيجد رئيس النهضة نفسه اليوم غير مجبر على فعل كل هذه التحركات في الربع ساعة الأخير، بما أن كلمته داخل البرلمان ستكون مفصلية ومسيطرة على نواب النهضة أكثر حتى من مجلس الشورى أو المكتب التنفيذي.

أما الأمر المتعلق بالعوامل الأخرى المحفّزة لراشد الغنوشي والتي جعلته يطرح نفسه في مرحلة أولى كنائب في البرلمان ومن ثمة ترشيح نفسه لرئاسته، فيكمن في مغريات رئاسة مجلس نواب الشعب، فالرئيس وفق النظام الداخلي ليس ملزما بتسيير كل الجلسات حيث يقتصر حضوره فقط على الجلسات العامة المحدّدة لمصير البلاد كمنح الثقة للحكومة أو سحبها منها.

ويضع رئيس النهضة كل هذا في مخيّلته لأنه يدرك أن الحصول على الرئاسة سيمكنه أولا، من التكفّل بسفرات وزيارات عديدة إلى بلدان ومحافل دولية مختلفة تكون باسم الدولة لا باسم الحركة، ثانيا ستضمن له هذه التحركات لقاءات مع  أبرز القادة في العالم وهو ما سيستغله مجدّدا لتبييض حركته الإسلامية وتبرئتها مرة أخرى من الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين عبر اجترار شعارات لا ينفك عن طرحها في السنوات الأخيرة كارتقاء النهضة إلى طور المدنية وفصلها للدعوي عن السياسي وتوخيها لما يسميه الغنوشي بـ”الإسلام الديمقراطي”.

وتأتي هذه التصورات السياسية المستقبلية في شكلها الجديد الذي ينزل فيه الغنوشي بثقله إلى مؤسسات الحكم، لا فقط نتيجة رغبة نهضوية محضة، بل يصنفها المتابعون أيضا على أنها من ضمن إفرازات الضغوط التي تمارسها قوى إقليمية داعمة للحركة ومن بينها قطر التي تدفع مجدّدا بزج النهضة في عمق توازنات القوى التونسية قصد الحفاظ على مكانة الإسلاميين المهددة في شمال أفريقيا.

ومن المغانم الأخرى التي سيحصدها الغنوشي من هذا المنصب الهام أنه سيكون في الوقت نفسه رئيسا للبرلمان ورئيسا لمكتبه، فمكتب مجلس نواب الشعب هو الهيكل الداخلي الأكثر أهمية حيث تصاغ داخله مختلف التوافقات السياسية بين الكتل البرلمانية حول كل المسائل المصيرية وكل مشاريع القوانين.

إن دخول رئيس حركة النهضة البرلمان وطموحه لرئاسته، وكذلك دفع الحركة بصفة متأخرة إلى ترشيح عبدالفتاح مورو للانتخابات الرئاسية لم يكونا اعتباطيين، بل كانا محكومين بقراءة واقعية لتطورات المشهد السياسي في البلاد، فكل ما تريده النهضة الآن هو التخلص من كابوس رافقها في الخمس سنوات الماضية عنوانه الأبرز يتعلق بمجلس الأمن القومي وما يملكه من قرارات ومعطيات تخص أمن البلاد، وهو سلاح كبّلها وجعلها في موضع المتّهم خلال الخمس سنوات الماضية.

مجلس الأمن القومي

في هذا الملف بالذات، تعي جيّدا حركة النهضة، ومن خلفها الغنوشي، بأن رئاسة البرلمان تعني بالضرورة أنها ستحجز مكانا دائما داخل مجلس الأمن القومي وأنها ستكون مطلعة على كل كبيرة وصغيرة تحصل داخله لدى عقده بصفة دورية في قصر قرطاج بإشراف رئيس الجمهورية.

إن مجلس الأمن القومي يعد من أهم الأجهزة التي تحسم الأمور في الكثير من الملفات الأمنية ويحضرها كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان ووزير الدفاع وجنرالات من المؤسسة العسكرية والأمنية.

كل هذه المهام الموكلة لمجلس الأمن القومي الذي سيقوده طيلة خمس سنوات الرئيس قيس سعيّد الذي يطرح مقاربات جديدة مخالفة لما دأبت عليه تونس من سياسات لأكثر من ستة عقود، تجعل النهضة، وخاصة الغنوشي، متأهبة في أكثر من أي وقت مضى لاقتناص فرصة اختراقه مجددا بصفة قانونية قصد خفت التخوفات مما قد يصدر عنه من  تقارير أو قرارات.

وعند الحديث عن هذه المسألة بالذات، يطرح سؤال آخر هام، لماذا تبحث النهضة عن كل هذا والحال أنها كانت تحكم طيلة ثماني سنوات؟

هنا، لا يمكن تقديم الإجابة إلا بالرجوع إلى ما حصل داخل مجلس الأمن القومي في السنوات الأخيرة، حيث كلّف في أواخر عام 2018 الباجي قائد السبسي هذا المجلس بالنظر في ما كشفته هيئة الدفاع عن المعارضين السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي من وثائق تتهم فيها النهضة بتكوين جهاز سري مواز داخل الدولة كانت له أياد طويلة تسبّبت في الاغتيالات السياسية وفي تفشي الإرهاب في تونس ما بعد الثورة. ولكل هذه الدوافع تراهن النهضة على العودة للمشاركة في مقرراته مثلما حصل في القترة الممتدة بين 2011 و2013.

6