الغائب حجته معه

أن يحمل المرء اسما مثل غائب، فإنه يؤكد من خلاله عدم حضوره الذي يرافقه من الولادة إلى الموت.
فجدول الحاضرين في الصف المدرسي لا يتضمن اسم غائب مثلا، غير أن غائب طعمة فرمان، وهو أحد رواد الرواية في العراق، كان حاضر الذكر دائما، فهو مؤلف “النخلة والجيران”، تلك الرواية التي مثلت على خشبة المسرح أيام كان هناك مسرح في العراق.
ومن أجمل أغاني المطرب اللبناني الغائب فضل شاكر “يا غايب ليه ما تسأل/ ع أحبابك اللي يحبونك/ ما ينامو الليل لعيونك/ أنا بفكر فيك”.
يتألم الكثيرون، لأن صاحب ذلك الصوت العذب غيب نفسه بنفسه بطريقة غبية.
كان هناك مطرب لبناني اسمه ربيع الخولي غنى بطريقة مذهلة “على رمش عيونها قابلت هوى/ طار عقلي مني وقلبي هوى”، ترك الغناء هو الآخر لينتسب إلى الكنيسة.
في الحالين كانت الأسباب الدينية قد صنعت ثغرة للغياب في جدار الحضور الإنساني. وهو ما لا يجب أن يدفعنا إلى التفكير في الإمام الغائب، تلك مسألة مذهبية شائكة يُفضل ألّا نقترب منها ونحن في خضم البحث عن غيابنا الدنيوي.
في العراق يخاطبون مَن لم يُرزق بخلفة بـ”أبي غائب”.
ولأن اللسان العراقي كان معتادا على استعمال العبارة التي تبدأ بـ”أبو”، فقد تم اختراع عبارة “أبو الشباب” لتحل الإحراج. ولكنها عبارة شعبوية رخيصة خاصة أنها ارتبطت بنشيد “نحن الشباب لنا الغد” حيث كان العراقيون يسخرون من ذلك الغد الغائب.
من وجهة نظرهم وهم شعب يائس أن الغد لن يكون جميلا. كانوا يرددون في قرارة أنفسهم “الله يا خبر/ أنت اسمعت كلامهم تاني”، لا أحد يعرف من هي ضحى التي غنت تلك الأغنية، بالرغم من أنها قالت “زعلان مني تعال عاتبني/ ولا تسمعش كلامهم تاني”.
ربما كانت أم كلثوم هي الأكثر احتكاكا بالغيبة الدنيوية في أغنيتها “لسه فاكر” وفكروني”.
تقول “اللي جوه القلب كان في القلب جوه/ رحنا واتغيرنا أحنه إلا هو”. يُرجح أن تكون “فكروني” هي أطول أغنية عربية.
هناك مَثل شعبي يقول “الغائب حجته معه” ولكنّ هناك نوعا من الكتاب والفنانين يترك حياة الشهرة بإرادته ويغيب متلذذا بعزلته.
يُعتبر الكاتب الأميركي جيروم ديفيد سالنجر أشهر الغائبين؛ فبعد أن جلبت له روايته “الحارس في حقل الشوفان” شهرة شعبية ورصيدا ماليّا ضخما قرر أن يختفي عن الأنظار، مكتفيا بغموضه.
عاش حياة هادئة كما كان يُحب؛ غائبا عن الضجيج حاضرا في خيال قرائه.