العودة بليبيا إلى دستور 1951 دعوة تصطدم بجدار الدكتاتوريات الناشئة

الحديث عن العودة إلى دستور 1951 له الكثير من الدوافع والمبررات ومنها فشل القوى السياسية في التوافق على دستور جديد وتمرير مسودة دستور 2017 وذلك نتيجة الخلافات وهيمنة منطق المغالبة.
الاثنين 2022/10/17
هل يكون النظام الملكي الدستوري المنقذ لليبيا من الفوضى؟

عاد الحديث عن إمكانية اعتماد دستور دولة الاستقلال في نسخته الأولى إلى واجهة الأحداث في ليبيا ولاسيما بعد اللقاء الذي جمع لأول مرة أعضاء من مجلسي النواب والدولة في مدينة بنغازي بالتزامن مع إحياء الذكرى الحادية والخمسين لإقرار الجمعية الوطنية الليبية في مدينة بنغازي في 7 أكتوبر 1951 دستور المملكة المتحدة قبيل الإعلان الرسمي عن استقلال البلاد والذي تم في الرابع والعشرين من ديسمبر من العام ذاته.

وكان عدد من أعضاء مجلس النواب عن المنطقة الشرقية قد دعوا إلى العودة إلى دستور 1951، وتوافقهم في ذلك نسبة مهمة من الليبيين، وفعاليات سياسية وحتى أطراف خارجية باتت تعتقد أنه من الصعب تجاوز حالة الانسداد السياسي المتفاقمة منذ العام 2011 دون التراجع إلى الوراء والاستفادة من مرجعيات النظام الملكي، الذي نجح في الخروج من مخلفات الاحتلال والحروب والصراعات الأهلية برؤية تبدو اليوم متقدمة عما آلت إليه الأوضاع في ليبيا وما تتبناه النخبة الحاكمة والسياسية التي يمكن اعتبارها متأخرة كثيرا عما كانت عليه نخبة دولة الاستقلال من روح الوطنية وحماسة التأسيس وعمق الوعي وجرأة المبادرة والقدرة على تجاوز الخلافات وطيّ صفحة الماضي بكل آلامه وخياناته وأوجاعه وانقساماته، فعندما قال الملك إدريس السنوسي يوم قيام الدولة “حتحات على ما فات”، فقد كان يعني ضرورة غلق ملفات العهود السابقة فورا ودون تأخير ليستطيع الليبيون بناء دولتهم في كنف الوحدة الوطنية والسلام الأهلي.

والحديث عن العودة إلى دستور 1951 له الكثير من الدوافع والمبررات ومنها فشل القوى السياسية في التوافق على دستور جديد وتمرير مسودة دستور 2017، وذلك نتيجة الخلافات الحادة حولها بسبب هيمنة منطق المغالبة من قبل أطراف بعينها بما أدى إلى ظهور نزعة الإقصاء السياسي ومحاولة تجاهل التباينات الأيديولوجية والثقافية والاجتماعية والديموغرافية والمناطقية في البلاد، كما كان واضحا أن قوى بعينها كانت تعمل على بسط نفوذها على الدولة ومؤسساتها السيادية وثرواتها ومقدراتها تحت غطاء ديمقراطية مزوّرة تتزعمها تيارات الإسلام السياسي التي ترى في نفسها الأقلية المؤهلة لحكم الأغلبية باعتماد عملية تفكيكية للمجتمع السياسي.

◙ ليبيا تحتاج اليوم إلى غطاء سياسي مرجعي ينسجم مع طبيعة الثقافة السائدة في البلاد، وهو ما يرى البعض أنه لا يمكن أن يكون غير النظام الملكي الدستوري الذي يطالب به الأمير الرضا السنوسي

يشير المنادون بالعودة إلى دستور 1951 إلى مميزاته في تبني النظام الفيدرالي وفق التقسيم التاريخي للبلاد إلى ثلاثة أقاليم وهي طرابلس وبرقة وفزان، وهو ما أعيد طرحه بقوة بعد الإطاحة بنظام القذافي قبل 12 عاما، ثم خفت بريقه بعض الشيء ليعود إلى الواجهة من جديد بزخم كبير من المؤيدات المنهجية نتيجة فشل الأطراف الداخلية والخارجية على تجميع الفرقاء الليبيين حول باب واحد للخروج من النفق، وتأجج نزعة التقسيم ولاسيما في برقة وفزان الإقليمين المجروحين بشفرة المركزية المقيتة والمحرومين من خيراتهما والمغيّبين عن مراكز القرار السيادي، ومن يتابع المشهد العام في ليبيا حاليا، يلاحظ أن ما يدور في طرابلس لا علاقة له بالمنطقتين الشرقية والجنوبية، وأن حكومة عبدالحميد الدبيبة منتهية الولاية التي أصبحت منكفئة على نفسها في مساحة لا تتجاوز 20 في المئة من المساحة الجملية للبلاد، هي التي تتصرف في إيرادات النفط والغاز وتتحكم في مصرف ليبيا المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط وفي علاقات البلاد الخارجية وهي التي تحدد المصالح والحسابات والتحالفات وفق ما يتم الاتفاق عليه داخل مجموعة ضيقة من المستفيدين الأصليين من استمرار الوضع على ما هو عليه، وهي التي تشكل ملامح البعد الإقليمي والمناطقي في أسوأ مظاهره، بل إنها تجاوزت حتى إقليميتها لتتحول إلى حكومة مجموعة من النافذين الأساسيين من رجال الأعمال الانتهازيين وأمراء الحرب المتشددين وجماعات الضغط العاملة لحساب القوى الأجنبية.

ويتضح جليا أن الداعين إلى العودة إلى اعتماد دستور الاستقلال يلحّون على الإشارة إلى عام 1951 وإلى عبارة “قبل التعديلات المدخلة عليه” في إشارة إلى تعديلات 1963 التي أطاحت بالحكم الفيدرالي وأعلنت عن قيام المملكة الليبية كدولة واحدة موحدة، في خطوة تم اعتبارها قبل 60 عاما مكسبا كبيرا للبلاد في ظل تنامي المشاعر الوطنية والإنسانية، فيما ينظر البعض إليها اليوم على أنها كانت خطأ فادحا في حق الشعب الليبي، حيث أدى الحكم المركزي إلى تهميش النسبة الأكبر من الليبيين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا مقابل إنعاش الانتماءات القبلية والعشائرية والمناطقية التي لعب النظام السابق على توازناتها لتكريس سلطته.

فالمنادون باعتماد دستور 1951 يبدون حرصهم على إعادة العمل بالسياق التاريخي والجغرافي للأقاليم الثلاثة، وهو ما يعني تبني منظومة الحكم الفيدرالي بوجود مؤسسات حاكمة في كل إقليم تنضوي تحت كيان اتحادي لا يطمس خصوصيات كل إقليم ولا يعتدي على مقدراته إلا بما يتم التوافق عليه، كما هو الحال في العديد من دول العالم، لعل أبرز مثال لها على الصعيد العربي من حيث التميز والنجاح هو المثال الإماراتي الذي شكّل دولة متحدة من سبع كيانات لا تزال تخضع لسلطة أسرها الحاكمة وتستفيد من ثرواتها وتعتمد على مؤسساتها الخاصة بما لا يتناقض مع البنية الهيكلية والمصالح العليا لدولة الاتحاد.

لكن هل يعني ذلك العودة إلى النظام الملكي؟ في يونيو 2021، رأى شلومو جيسنر، الرئيس والمؤسس المشارك لمنتدى كامبردج للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بلندن، في مقال نشره موقع “ناشيونال إنترست” الأميركي أن النظام الملكي الدستوري سيكون المنقذ لليبيا من الفوضى التي تعيشها حاليا، مشيرا إلى أن الملك المحتمل لا خلاف عليه، وأن الدستور الليبي لعام 1951 قدم حريات سياسية واجتماعية واسعة لشعبه، وكان النظام البرلماني قائما على حق الاقتراع العام للبالغين، في وقت لم تسمح فيه سويسرا، تلك المنارة الليبرالية في قلب أوروبا، للنساء بالتصويت في الانتخابات الفيدرالية.

وتابع جيسنر أن ليبيا منذ عام 2011 تمزقت بسبب الصراع الداخلي، وهو أمر ليس من المستغرب، كما يقول، في مجتمع منقسم إلى 140 قبيلة رئيسية وعدد كبير من القبائل الفرعية، ويبدو أنه لا يمكن التوفيق بين القوى السياسية في بلاد تتمتع بالكثير من الثروة النفطية، مشيرا إلى أن ما تحتاج إليه ليبيا حاليا هو شخص، زعيم، أو حكومة، يلتف حوله/حولها الشعب، ومن المشجع أن الذين يناضلون من أجل “عودة الشرعية الدستورية” كانوا حركات شعبية حقيقية، كذلك فإن زعماء القبائل والسياسيين يتقبلون أيضا فكرة إعادة تأسيس ملكية دستورية.

◙ المنادون بالعودة إلى دستور 1951 يشيرون إلى مميزاته في تبني النظام الفيدرالي وفق التقسيم التاريخي للبلاد إلى ثلاثة أقاليم وهي طرابلس وبرقة وفزان، وهو ما أعيد طرحه بقوة بعد الإطاحة بنظام القذافي

وإذا كان البعض يعتقد أن النظام الملكي كان رمزا للوحدة، مدعوما بشعبية الملك إدريس وآل السنوسي، وأنه من الممكن أن يحدث ذلك مرة أخرى اليوم، فإن هناك من يستبعد ذلك للعديد من الأسباب، منها أن النظام الملكي قد يجد أنصارا له في مهده التاريخي بإقليم برقة، ولكن من الصّعب القبول به في إقليم طرابلس مثلا الذي كانت له على الدوام ميولات مختلفة، حتى أن أول جمهورية في المنطقة العربية هي تلك المعروفة بالجمهورية الطرابلسية والتي تأسست يوم 16 نوفمبر سنة 1918، كما أن نزعة التمرد على النظام الملكي بدءا من 1952 كانت قد برزت في طرابلس ومصراتة بالذات، وتواصلت حتى أواخر الستينات بصور مختلفة.

تحتاج ليبيا اليوم إلى غطاء سياسي مرجعي ينسجم مع طبيعة الثقافة السائدة في البلاد، وهو ما يرى البعض أنه لا يمكن أن يكون غير النظام الملكي الدستوري الذي يطالب به الأمير الرضا السنوسي، فيما هناك من يدعو إلى استبعاد فكرة العودة إلى السنوسية كنظام حكم والاكتفاء منها بمبادئ الدستور الذي كرّس ديمقراطية ليبرالية وكان يحترم إرادة الشعب من خلال برلمان بغرفتين للنواب والشيوخ يتم اختياره عبر التصويت المباشر للرجال والنساء فوق سن 21 عاما، كما نص على حرية الصحافة، وحقوق الأقليات، واستقلال القضاء، وأعطى ضمانات للحريات العامة والخاصة، وإذا كانت مادته الخامسة قد ذكرت أن “الإسلام دين الدولة”، فإن دستور الاستقلال أقر عددا من الحقوق مثل المساواة أمام القانون، وكذلك المساواة في الحقوق المدنية والسياسية، وتكافؤ الفرص، والمسؤولية المتساوية في المهام والواجبات العامة “دون تمييز في الدين أو المعتقد أو العرق أو اللغة أو الثروة أو النسب أو الآراء السياسية أو الاجتماعية”، لكن ذلك المعطى ترفضه اليوم جماعة الإخوان والتيارات السلفية، ومنها تيار الغرياني، التي تلتقي مع النظام السابق في محاولة السيطرة على المجتمع بتلبيس عاداته وتقاليده وأعرافه بعدا دينيا تتحكم في مفاصله الدولة وفق ما يخدم رغبات المتحكمين فيها.

إن العودة إلى دستور 1951 قد تكون لدى الديمقراطيين والليبراليين والعلمانيين منفذا لتجاوز حالة الاستبداد التي تسيطر على البلاد حاليا سواء بآليات عسكرية أو ميليشياوية أو دينية أو غيرها، ولاسيما أن جميع المؤشرات الحالية تؤكد أن أيّ نص دستوري جديد سيكون متأثرا بميولات القوى المهيمنة على السلطة، وأن الوضع الحالي لن يفرز أيّ مسار ديمقراطي دائم، ولن يتيح لليبيين ممارسة حقوقهم وحرياتهم العامة والخاصة، لكن تلك العودة ستعني للفاعلين الأساسيين على الميدان والمهيمنين على ثالوث السلطة والثروة السلاح هزيمة لمشروعهم المتمثل في إرساء دكتاتورية الدكتاتوريات الناشئة والمتعددة والمبنيّ على فكرة التقاسم غير المعلن للمصالح بحسب التوازنات الاجتماعية والجغرافية والمناطقية والمالية والاقتصادية وبما يخدم أهدافهم وأهداف القوى الخارجية التي تقف وراء كل طرف منهم.

9