العنصرية في العالم العربي.. قناعة راسخة أم فقاعة عابرة

رميت بحبّة حمص مسلوقة وسوداء عندما كنت أطعم طفلي من كيس صغير اشتريناه من بائع متجوّل أشقر اللون، كان ذلك في حديقة عامة بالعاصمة اللبنانية بيروت. نظر إليّ الصغير بعين لا تخلو من الغضب والعتاب، وكأنه يحتجّ على هذه الحركة الاعتباطيّة الرعناء، وزاد من إحراجي قول البائع الأشقر “ألا تعلم أنّ حبّة الحمص السوداء أطيب مذاقا من الحبات ‘الشقراوات’ يا أستاذ؟”. لست أدري لماذا تذكّرت فيلم مارلين مونرو فجأة “بعضهم يحبّذها شقراء”.
الثلاثاء 2016/09/06
العنصرية في العالم العربي تهمة نوجهها غالبا للآخر

جلسنا على مقعد نأكل الحمص المسلوق ونتفرّج على العابرين بسحناتهم المألوفة أمام بعض معيلات المنازل القادمات من قارتي آسيا وأفريقيا وهنّ يلاعبن أطفالا تبدو عليهم علامات الرفاهية والدلال، وبعض الغلظة في التعامل مع مرافقاتهم. إحداهنّ لاعبت ابني الصغير بحب ومرح كبيرين، حاولت مكافأتها بشيء رمزي، لكنها رفضت وقالت بلغة إنكليزية رشيقة إنها تستمتع باللعب مع الأطفال وتلهو بألعابهم كلما سنحت لها الفرصة، ثمّ صارحتني بعد أن استطابت الحديث وشعرت بالأريحيّة والأمان، بأنها تعامل بقسوة في المنزل الذي تعمل فيه.

سألتها على سبيل الفضول، إن كان لديها صديق أو حبيب أو ما شابه، وكيف يلتقيان، فأجابت “نعم، ونلتقي هنا عند المراجيح حين نلاعب الأطفال كل نهاية أسبوع، أو نسرق بعض الوقت في الليل أثناء رمي القمامة عند الحاوية التي تفصل بين ‘فيلاتينا’ أقصد مكاني عملنا”. وهنا قطع ابني حديثنا، وفاجأ الصبيّة بهديّة غريبة، لقد جمع كل حبيبات الحمص السوداء وأهداها للخادمة اللطيفة. شكرته بحب كبير وقالت بمرح “أنا أيضا أحب الأبيض من الفواكه والشراب واللباس، وإن تخلّى عنّي حبيبي الأسمر يوما فسأتزوّج من بائع الحمص الأشقر هذا، لعلّنا ننجب طفلا يرضي جميع الأذواق ويأكل الحمص دون تفرقة بين حبة شقراء وأخرى سوداء”.

غادرتنا الفتاة اللطيفة السمراء لتلتحق بمن تشرف على خدمتهم وسألت نفسي إن كانت العنصرية تبدأ ـ حقا ـ في طرف أفكارنا وزوايانا المظلمة فعلا، كما كتب أحد منظّريها من فلاسفة أوروبا؟ هل تنتقل العنصريّة وتورّث عبر الجينات أم أنّنا تعلّمناها في البيئة الأولى المسمّاة بالعائلة ثم تدحرجت ككرة ثلج نحو المدرسة فالمجتمع، لتمسي سلوكا يوميّا وطبيعة ثانية نتنفّسها كالهواء؟

العنصرية بتعريفاتها المختلفة، والمرتبكة أحيانا، هي الاعتقاد بأن هناك فروقا وعناصر موروثة بطبائع الناس وعزوها إلى انتماءاتهم لجماعة أو لعرق ما، بغض النظر عن كيفية تعريف مفهوم العرق، وبالتالي تبرير معاملة الأفراد المنتمين إلى هذه الجماعة بشكل مختلف اجتماعيا وقانونيا. وبالرغم من أن التمييز العنصري يستند في الكثير من الأحوال إلى فروق جسمانية بين المجموعات المختلفة، إلا أنه قد يتم التمييز ضد أي شخص على أسس إثنية أو ثقافية، دون أن تكون لديه صفات جسمانية.

كما قد تتخذ العنصرية شكلا أكثر تعقيدا من خلال تلك النزعة الخفية، التي تظهر بصورة غير واعية لدى الأشخاص الذين يعلنون أنهم مع قيم المساواة والحرية والإخاء بين البشر. العنصرية في العالم العربي تهمة نوجهها غالبا للآخر، تحديدا للآخر الغربي الذي نتهمه دائما بالتعصب والانحياز وسوء الظن، فإذا كانت العنصرية في تعريفها الأكثر شيوعا تعني التعصب لجماعة أو ضدها على أساس العرق أو الدين أو اللون واضطهادها فالعالم العربي ليس بريئا من هذه التهمة، بل نمارسها كل يوم إزاء بعضنا البعض حتى لو أنكرنا ذلك.

العنصرية نمارسها مع شروق كل شمس في منطقة شهدت مهبط الأديان السماوية التي تدعو جميعها إلى المساواة بين البشر، وتعرض سكانها للكثير من الظلم عبر التاريخ، ولا يمكن فصل النكات التي يطلقها أبناء إقليم حول آخر في نفس البلاد عن العنصرية، هذا ناهيك عمّا يتعلّق بالمرأة وطرق معاملتها، وكذلك النظرة إلى الأقليات الدينية وغيرها.

اتهامنا بالعنصرية نوع من العنصرية

العرب آخوا بين حبشية بلال ورومية صهيب وفارسية سلمان

هل من الممكن والمعقول، الحديث عن تمييز عنصري لدى أصحاب ديانة آخت ـ عبر تاريخها وفي تعاليمها ـ بين بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي؟ العرب هم أكبر ضحايا العنصرية، وأول من اكتوى بنارها، فكيف يعمدون إلى ارتكابها وممارستها ضد غيرهم؟ القول بأن العرب عنصريون أمر مستبعد، بل ومستهجن في رأي الكثير من النخب الثقافية والسياسية على امتداد العالم العربي، ويعتبرون الحديث عن “عنصرية العرب”، أمرا يندرج في خانة التشويه، وهو في حد ذاته شكل من أشكال العنصرية المسلطة ضدهم.

اتهام العرب بالعنصرية يأتي في إطار حملة مسعورة ومنظمة، تشنها مؤخرا الأوساط الإعلامية في إيران بغية الترويج لخطاب عرقي ومذهبي، يسوّق لفكرة “التفوّق الفارسي” ويحط من شأن الثقافة العربية، وفي هذا الإطار تنبهت أوساط إعلامية وسياسية إلى دعوة حسن هاني زاده، رئيس تحرير القسم العربي بوكالة “مهر” للأنباء الإيرانية شبه الرسمية، إلى الوحدة الاندماجية بين العراق وإيران، وحث العراقيين على الانسلاخ من انتمائهم العربي الذي وصفه بالذليل والمهين، واضعا العراق بين خيارين؛ إما العروبة التي وصفها بالمزيفة وإما “الإسلام الحقيقي”، ويقصد هنا التشيّع الرسمي في إيران، وطالب العراق بـ”نفض ثوبه من تراب الذل العربي”.

النظر إلى العرب على أنهم عنصريون حتى يثبتوا العكس، أمر غاية في الظلم والإجحاف، وقد تزايدت هذه النزعة بفعل استثمار القوى اليمينية لمسألة تنامي العمليات الإرهابية ومحاولة ربطها بالشعوب العربية دون غيرها، هذا بالإضافة إلى عوامل وتغيرات سياسية كثيرة، فالنظام الإيراني يستعمر شعوبا أخرى بما فيها العرب والبشتون والأذربيجان والكرد والأزبيك، ويعامل هذه الشعوب بحقد عنصري إجرامي ولا أحد يقول إن الفرس عنصريون ومتعصبون.

هذه “الشعوبية الفارسية الجديدة “، يقول الباحث التونسي حفناوي عمايرية “لم تجد مثقفين كثيرين يردون عليها، ويتصدون لها بالحجة والبرهان كما فعل الجاحظ ورفاقه من الكتاب العرب في العصر العباسي”، ويضيف عمايرية أنّ الكثير من مثقفينا قد انساقوا وراء هذه الادعاءات وغيرها من الحملات التشويهية التي ازدادت شراستها مع محاولة ربط العرب بالإرهاب في السنوات الأخيرة من طرف الأوساط اليمينية في أوروبا وأميركا.

الغريب أن النزعات العنصرية بين العرب أنفسهم، نجدها لدى من يقدمون أنفسهم كقوميين وعروبيين، مثل حديث بعضهم عن منطقة الجزيرة العربية
ويرى عدد من المنشغلين بالشؤون الفكرية، وكذلك من ذوي الميولات القومية، أنّ محاولة إلصاق تهمة العنصرية بالثقافة العربية، تأتي على “سبيل جلد الذات” وليس نقدها أو مواجهتها، وهو أمر بات شائعا لدى الكثير من المستلبين والمنسلخين والطامعين بالحظوة في الأوساط الغربية.

ويقول حسن خلوف وهو مدوّن “هل يحق للآخرين كراهية العرب والتآمر عليهم، ولا يحق للعرب حتى أن يدافعوا عن أنفسهم؟ العربي الحقيقي له كرامة لا تسمح له بأن يرضى بالضيم وإهانة الآخرين له ولو كلفه ذلك حياته”، ويضيف المدوّن المتحمس لفكرة القومية العربية مستدركا “هذا الكلام ليس تعصبا ولا عنصرية، ولكن على العرب أن يقفوا في وجه هذه الحملات الظالمة التي انضمت إليها أعراق وقوميات مسلمة لم يعاملها العرب في تاريخهم إلاّ بمنتهى الاحترام”.

يحلو للبعض توصيف بعض الثقافات الشعبية، وحالات الاعتزاز بالهوية والانتماء، بأنها ذات طابع عنصري، وهذا إجحاف وتهويل، فكلمة “وصيف” أو “كحلوش” مثلا في العامية التونسية، والتي تطلق لدى بعض الناس على أسود اللون، لا يقصد بها الإهانة والتحقير، بل هي على سبيل التودد والملاطفة، كما أن تسمية الفستق السوداني بـ”فستق عبيد” في بلاد الشام، ليست عنصرية بقدر ما هي نوع من التمييز، فبعض العبارات والمصطلحات عرفت انزياحات لغوية نحو سياقات أخرى. هذا الموروث الثقافي الشعبي في العالم العربي، يحاول أصحاب النوايا المبيتة والأحكام المسبقة، أن يجيروه لصالح أحكامهم المسبقة، وينزعون منه براءته لإثبات أنّ العرب عنصريون، وعلى طريقة “معيز ولو طاروا”.

التمييز العنصري في البلاد العربية، هو ـ في مجمله ـ حالة لفظية، لا تتعدى اللغة، وليس تمييزا حقيقيا، ينبع من سابق إصرار وقصدية واضحة، أمّا أخطر أنواع العنصرية فيكمن لدى أولئك المنافقين والمتسترين بشعارات محاربة التفرقة والعنصرية. المجتمعات العربية، وفي توزعها الجغرافي، تعيش ما بين المحيط الأطلسي وحتى الخليج العربي، ومن جبال طوروس وحتى بحر العرب والهضبة الإثيوبية، وهي مجموعات سكانية بكل ألوانها وأصولها ولغاتها وميولها، ثقافتها العربية ولغة المخاطبة العربية والعادات تقريبا واحدة، وكذلك المشكلات.

تبرئتنا من العنصرية ضرب من العنصرية

العنصرية تسكن زوايا تفكيرنا

يقول صحافي يكتب في موقع أمازيغي تحت اسم “أزرو” وبلغة ساخرة “ربما كان للعرب الفضل في إدخال كلمة ‘راسيزم’ أي العنصرية إلى اللغات اللاتينية، وأصلها جاء من كلمة ‘رأس” العربية، وقد وقع تمريرها عبر الأندلس إلى أوروبا ومن ثم إلى كافة أصقاع العالم”.

ويتحدث الكاتب عن “مظلومية ثقافية” قد لحقت الأمازيغ من قبل العرب مستشهدا بأمثلة كثيرة، لعل أبسطها في نظره قضية الأسماء، فالعروبيون، كما يسميهم الكاتب، وعلى اختلاف توجهاتهم ومذاهبهم، يذكرون أن الأسماء الأمازيغية أسماء كافرة، إذ أن “أيور” مثلا، هو عندهم اسم “مشرك” أما “قمر” فإسلامي، والفرق هو أن الأول بلغة الأمازيغ، والثاني بلغة العرب. ويحاول مثقفون أمازيغ من شمال أفريقيا أن يثبتوا “عنصرية العرب” في نظرهم من خلال وقائع وسجالات، كان بعض العرب يتندرون بها، وتحمل سخرية واضحة من ثقافتهم كقول أحد عرب الأندلس:

“رأيت آدم في نومي فقلت له … أبا البرية إن الناس قد حكموا

أن البرابر نسل منك قال أنا … حواء طالقة إن كان ما زعموا”

الإقرار بالنزعة العنصرية التي تعامل بها مؤسسات رسمية ومنابر إعلامية في العالم العربي بقية القوميات والثقافات، جعل حتى الكثير من الكتاب العرب يقرّ بها، بل ويبدي تعاطفا كبيرا مع زملاء في الصحافة والكتابة مثل الأكراد، وهذا ما جعل الصحافي السوري محمد منصور، يدعو الكتاب الأكراد إلى أن يقاطعوا المنابر الإعلامية العربية وألا يغرقوها بالعشرات من المقالات المكتوبة باللغة العربية، وكتب يخاطبهم في مقال صحافي “انسحبوا وانظروا كيف ستتراجع الثقافة وستنهار مقالات الرأي، وسينعدم التحليل.. وسيجد العرب أنفسهم مضطرين للاستعانة بمترجمين كي يترجموا مقالاتكم كما يفعلون مع الكتاب الغربيين الذين يشاركونكم الانتماء إلى العرق الآري”.

ويضيف منصور الذي يكتب في إعلام المعارضة السورية “كنا إذا وجدنا في جيب طالب جامعي ورقة كتبت عليها كلمة بالكردي، أو شعارا أو صورة تمت بصلة لرمز كردي، نسارع إلى ‘شحطه’ إلى الفرع، مستفيدين من التهمة المخابراتية الجاهزة المسماة (النزعات الانفصالية) التي كان يرفعها ويتاجر بها (الشعب)“.

اتهام العرب بالعنصرية يأتي في إطار حملة مسعورة ومنظمة، تشنها مؤخرا الأوساط الإعلامية في إيران بغية الترويج لخطاب عرقي ومذهبي

النزعة العنصرية لدى المجتمعات العربية، لا تقتصر على النظرة إلى الأعراق والثقافات الأخرى، بل أيضا في تلك النظرة التفاضلية بين الأفراد، وغياب ذلك الانفتاح الطبقي بين فئات المجتمع، ولقد حدثنا شاهد عيان كان حاضرا عندما دخلت سيدة عيادة متخصّصة في الأمراض العصبيّة، بحثت عن مقعد انفرادي وشاغر في قاعة الانتظار المكتظّة فلم تجده، اضطرّت للجلوس إلى جانب امرأة بسيطة المظهر، متواضعة الهندام، سألتها وفي يدها مروحة الريش, تحرّك قدميها بعصبيّة واضحة وهي تنظر إليها بتأفّف “ما الذي جاء بك إلى هنا؟…لا تقولي لي إنّك جئت للتداوي؟”، أجابت المرأة الفقيرة “وهو كذلك يا مدام”، فقالت السيدة بعجرفة “لم أكن أعلم أن مرضي قد أهين إلى هذا الحد”، ثمّ غادرت العيادة وقد استكثرت على تلك المسكينة مرضا تراه لا يليق إلاّ بالفئات الراقية من أمثالها.

من هنا تبدأ العصبيّة والعصبيات, في التفكير والسلوكيات والنزعات قبل الشرايين والأوعية والارتجاف والنوبات. كيف لهذا الطبيب الذي غادرت عيادته تلك السيدة المتكبّرة أن يعالج داءها العضال, دون الاستعانة بالحبوب المهدّئة والنصح بالاسترخاء واليوغا التي لم تنفع –حتى أهلها.

وتقول منى من مصر “بينما كنت أمشي مع صديق سوداني بوسط القاهرة، صرخ شاب مصري يعمل بمحل للحقائب اليدوية غاضبا “دي والله العظيم خسارة فيك”. وتتساءل منى “هل أصبح المشي مع السودانيين في شوارع مصر يثير غضب الناس؟”، وتضيف “للأسف نعم، فهنا علامات العنصرية تلمع في أعين بعض الناس، كيف لا وبنت شابة تمضي مع أسود سوداني .. يا نهار إسود .. هم الرجالة البيض انقطعوا؟”.

أعمال درامية مصرية كثيرة، كرست نزعات عنصرية ضد السودانيين والنوبيين وأهل الصعيد، مثل بعض الأدوار النمطية كـ”عصمان السفرجي” و”عبد المنعم البواب”، حيث تنحصر صورة الممثل السوداني دائما في العمالة المنزلية وحراسة أبواب العمارات، أما المرأة السودانية فهي تظهر دائما على بداوتها وطبيعتها بلباسها التقليدي ولم يتجاوز حضورها دائرة “الدادة نعمات” التي تهتم بالأبناء وترعاهم في ظل راحة أمهاتهم. وكثيرا ما تسقط وسائل إعلام عربية في مستنقع العنصرية، أمّا الأمثلة فعديدة ومتنوعة، كالطريقة التي وصفت بها صحيفة لبنانية السوريين المهجرين، واتهمتهم بـ”تغيير هوية شارع الحمراء في بيروت”.

12