العماني حسين عبيد يستعيد النشأة الأولى للكون في لوحات تجريدية

لوحات الفنان حسين عبيد تحفل بعلامات ورموز تستعيد صياغة صورة الحياة الأولى بأنفاس الماضي وروح طفولة اللعب.
السبت 2021/07/03
تجاور حميمي بين البحر والصحراء

تزخر الساحة التشكيلية في سلطنة عُمان بالعديد من الأسماء الرائدة في الحقل البصري مُشكّلة نوعية خاصة من التجارب التي بات لها حضور واسع على الصعيد الخليجي. ومن المبدعين العُمانيين الذين تركوا بصمة في المجال التشكيلي يحضر اسم حسين عبيد الذي استطاع بعد ربع قرن من الحميمية مع اللون أن يشكّل عبر مفرداته الفنية غنائية تجريدية موغلة في الخصوصية والتفرّد.

الفنان العماني حسين عبيد لا يخلد إلى الواقع، بل يجنح دائما إلى الخيال الخصب في مواطن وعوالم ملوّنة لامتناهية بين الصمت والنطق في ذلك الركن القصي من ذاكرة غير مخدوشة ناصعة تستدعي عوالمها ومفرداتها في أبلغ صورها وأجمل تركيباتها.

وبآفاق مفتوحة على كتابات ورموز الحضارات الأولى وأشكال حفريات بدائية تتشكّل نصوصه المفتوحة على المعنى، والتي تشير إلى جغرافيا وطنه عُمان برائحة حاراته وبيوته وأسواقه القديمة وجباله القائمة والمطلة على بحر سمائه الزرقاء على امتداد الأصفر الوهّاج وما يكنّه من أسرار وكنوز.

وحول تعبيره عن البيئة العُمانية، يقول عبيد إنه لا يستطيع أن يقول إن لوحاته تشبه كل التفاصيل في سلطنة عُمان، فالفن لغة عالمية ولا يرتبط مباشرة بقطر أو كيان أو أيديولوجيا، ومن هذا المنطلق فإن عُمان وتفاصيلها تشكّل لديه مدخلا لتجارب أخرى.

أصوات أنيقة تصدح بأفكار تشكيلية بين الاشتغال على الخامة ومساحات أخرى ملوّنة تقترب من الهندسية والفن البصري الخالية من أي تعقيد، متجاورة مع مساحات أخرى مكتظة بالمعاني كأنها مواطن أنسليم كييفر الألماني عوالم النشأة الأولى للكون قبل اكتشاف أبجديات التخاطب بين البشر، رموز تتشكّل لإعادة صياغة صورة الحياة الأولى بأنفاس الماضي وروح طفولة اللعب.

يتتبّع عبيد في لوحاته إشارات داخلية تقوده إلى وصفات طازجة لصناعة عوالمه الخاصة، المزج بين الغنائية التجريدية ومساحات بصرية تدعو للتأمل في جماليات التجاور بين الصحراء والبحر.

وعن ذلك يقول “لا أميل للرسم باللون الأخضر أو رسم الأشجار أو الطبيعة بل أحب رؤية البحر والصحراء، وذلك الأفق الوهمي الموجود بينهما”.

مزج فريد بين الأسطح المتوترة والأخرى الساكنة
مزج فريد بين الأسطح المتوترة والأخرى الساكنة

ويحضر البني والأزرق في أغلب تجاربه الفنية بتنوّع أشكالها ومناخاتها ومواضيعها عبر مراحل طويلة من التجريب والبحث بالإضافة والحذف بخطوات ثابتة وتغيّرات تدريجية مدروسة بعناية فائقة.

ويعزو عبيد سيطرة اللون البني على لوحاته إلى لون جبال عُمان، وهو الذي أنجز العشرات من الأعمال التي تمحورت حول هذا اللون الذي وجد فيه مساحة منفردة ساعدته في تحقيق ذاته والانفراد نحو تأسيس بلاغة تشبهه، كما يجتهد في البحث عن بعض المفردات المرتبطة باللون كالجبال والجدران وبعض التفاصيل التي تبدو غير مهمة للناس العاديين.

الفنان يرسم بذاكرة اللعب في طفولة الرسم على جدران المدرسة وحيطان الحارات القديمة لقصص دوّنها الصغار وعاشها الكبار، فهو لا يرسم الموجودات بل تصوّراته عن تلك الموجودات في بواكيرها الأولى بمساحات ملوّنة وخطوط وخدوش وحفر على مواد ومعاجين بمثابة جدران منقوش عليها نصوص الأسفار الأولى للإنسان يتخلّلها رسم لطائر قد حط للتو أو في هو حالة تأهب للطيران.الروح كانت أقرب إلى زرقة لونه في ملامح حياة البحر الذي يعيشه، مدن وقلاع حصون وأبواب، شبابيك وجدران وألواح مكتوبة وأخرى مرسومة وكلها موسومة بعبق الماضي وحداثة الأسلوب.

أما المعالجة الفنية والرؤية الجمالية فتبدو منفردة من خلال المزج بين الأسطح المتوترة والأخرى الساكنة، ممّا يصنع نغما متوازنا لسيمفونية جماليات الأثر وخدوش الحيطان، وهو الذي نجح في أن يحوّل هذه العوالم إلى مساحات سحرية تقترب من موسيقى يمكن سماعها ورؤيتها في آن واحد.

في أعمال الفنان العماني يمكن استحضار جداول ومربعات مناطق “خور الملح” الجميلة، الواقعة بالقرب من مسقط، تلك اللوحة الإلهية التي اختزل فيها الفهم التشكيلي كله وما اتفق عليه منذ أن بدأت تجارب موندريان في الظهور إلى آخر ما تم إنتاجه في مدارس التعبيريين في نيويورك من تجاور في الألوان وشفافية في مياه الجداول وبياض الملح وزرقة السماء المنعكسة في العديد منها.

كيف يمكن أن يمسك كل تلك الذكريات المنفلتة من صندوق الذاكرة أو يستدعيها بكل يسر! إلاّ بغمغمات اللون وخربشات وخطوط الفرشاة في حالة تتأرجح ما بين الوعي واللاوعي بين الحلم والواقع في كل إغفاءة واستفاقة، الخطوات، كولاج للقطع من الخيش أو قصاصات جرائد، البني والأزرق، الحفر والرسم، الأثر وأجزاء من قصائد متناثرة، كل هذا وأكثر يرسمها الفنان كما يفكّر بها وليس كما يشاهدها في الواقع هي مترسّبة في ذاكرة إضافية منذ سنوات مضت.

Thumbnail

والفنان حسين عبيد من مواليد مسقط 1968، عضو لجنة تحكيم في العديد من المعارض والجوائز الفنية من أهمها جائزة السلطان قابوس 2012، أقام العديد من المعارض الفردية وشارك في العديد من المعارض والملتقيات والمهرجانات في مسقط وتونس ومصر والإمارات ولبنان وتايلاند.

تحصّل على العديد من الجوائز الفنية، وشارك كمعد لبرامج “أفاق ثقافية” في تلفزيون مسقط، ونشرت له العديد من المقالات عن الفنون التشكيلية في الصحف والمجلات المحلية والعربية.

له أعمال مقتناة في العديد من المتاحف والهيئات والمؤسسات الرسمية، منها متحف الفن المعاصر كرابي تايلاند، والمتحف الوطني الأردني، ومتحف بيت الزبير مسقط عُمان، وديوان البلاط السلطاني بمسقط، ووزارة الثقافة المصرية وزارة الثقافة الجزائرية والعديد من المتاحف المهمة الأخرى.

14