العمارات الشعبوية مشكلة لا تنتهي برحيل مشيّدها الشعبوي

الهندسة المعمارية لا تعتبر مشروعا ديمقراطيا حتى في أفضل الأوقات.
الأحد 2023/05/28
العلاقة بين الشعبوية والعمارة ليست مصادفة

منذ القدم ارتبطت السياسة بالعمارة، فكان القادة السياسيون على مر القرون يصنعون رموزهم المعمارية لتخليد ذكراهم وأسمائهم، ولكن الأمر تغير اليوم، فباتت العمارة وسيلة السياسيين الشعبويين الأولى لإبراز أدوارهم في تحقيق التنمية والرخاء ونحت كيان المجتمع الذي يحكمونه، وهذا ما يظهر جليا في الكثير من الحكام الشعبويين على غرار ما يحدث في تركيا والذي فضحه الزلزال. 

لاقى جزء من سجل الرئيس رجب طيب أردوغان تركيزا خاصا قبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المهمة في تركيا، والتي نُظّمت في الرابع عشر من مايو الجاري. واهتم الكثيرون بطفرة البناء التي تزعّمها حزب العدالة والتنمية على مدى العقدين الماضيين. وكان زلزال السادس من فبراير الذي قتل فيه 50 ألف شخص هو ما جعل العديد من الأتراك يدركون جانب الطفرة المظلم الذي لا يقتصر على المباني الرديئة، بل يشمل الفساد المستشري وخلق أوليغارشيي صناعة البناء المستعدين لترسيخ سلطة الحاكم.

لكن أردوغان ليس الزعيم الشعبوي اليميني الوحيد الذي اعتمد على مطوري العقارات وأعمال البناء؛ فقد اتبع رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي هذا المسار أيضا. وليس هذا الارتباط الدولي بين الشعبوية والعمارة مصادفة؛ فقد عملت هذه الشخصيات الحاكمة لفترة طويلة وبشكل منهجي على تغيير خارطة البناء (وخاصة مراكز المدن) حتى تتوافق مع فهمهم لمن هو “الشعب الحقيقي”. وستواجه الحكومات الجديدة العديد من المهام العاجلة إذا خسر هؤلاء الشعبويون سلطتهم (وليس متى). وسيتوجب عليها النظر في ما إذا كان ينبغي تفكيك المناظر الطبيعية الحضرية الرمزية التي بناها القادة الشعبويون.

صورة الشعب الحقيقي

مساعي الشعبويين لتصوير أنفسهم على أنهم الشعب الحقيقي ليست مجرد مصادفة وتبقى مشاريع البناء مرئية للجميع

على عكس المعتقدات السائدة، لا يُعرف الشعبويون فقط بانتقاد النخب أو الغضب على المؤسسة. صحيح أنهم يهاجمون الحكومات القائمة حين يكونون في المعارضة، والأحزاب الأخرى في جميع الحالات، بل يزعمون أيضا أنهم وحدهم الذين يمثلون ما يشيرون إليه غالبا باسم “الشعب الحقيقي”. ويعني هذا أن جميع المتنافسين الآخرين على السلطة لا يمثلون الشعب، فهم يعتبرون كل السياسيين الآخرين فاسدين.

لكن ما هو أقل وضوحا هو أن الادعاء باحتكار تمثيل الشعب يعني أن جميع المواطنين الذين لا يشاركون (أو ليسوا مناسبين) في ما يمثله الشعبويون لا ينتمون إلى الشعب. ولا ينتقد الشعبويون الأقوياء فقط (وهو أمر عادي في الديمقراطية)، بل يسعون إلى استبعاد الآخر. ويحدث هذا على مستوى السياسة الحزبية. والأخطر من ذلك أنه يحدث أيضا على مستوى الأفراد أنفسهم، حيث تُمحى الأقليات الضعيفة بالفعل من “الشعب الحقيقي”. إن أردوغان هو مثال واضح لهذه الممارسات. وقال خلال مؤتمر للحزب في 2014 عن نفسه وحزب العدالة والتنمية الذي يترأسه “نحن الشعب”. ثم التفت إلى المنتقدين وسألهم “من أنتم؟”.

ليست مساعي الشعبويين لتصوير أنفسهم على أنهم الشعب الحقيقي مجرد مصادفة. وتبقى مشاريع البناء (بما في ذلك البنية التحتية مثل مطار إسطنبول الجديد) مرئية للجميع. وتثبت (مثل إنشاء الصين السريع للمطارات) قدرات الدولة على هذا النحو، وتسهل جمع أموال دافعي الضرائب (أو إعانات الاتحاد الأوروبي في حالة المجر) على المقربين الذين يمكنهم رد الجميل بشراء القنوات التلفزيونية أو الصحف التي تنتقد الحاكم الشعبوي.

ويوجد مع ذلك ما يتجاوز القوة المالية. وقد ميّز عالم السياسة الأميركي هارولد لاسويل منذ عدة عقود، في مجلد منسي ظلمًا عن الهندسة المعمارية والسلطة، بين “إستراتيجيات الترهيب” و”إستراتيجيات الإعجاب”. يرتبط التوجه الأول عادة بالأنظمة الشمولية في القرن العشرين، ويهدف إلى ترهيب المواطنين مباشرة. ويحاول المستبدون اليوم، الذين يركزون على قصص النجاح أكثر من الخوف، إثارة الإعجاب والشعور بالإنجاز الوطني وجذب السياحة. ولم تكن “إمبراطورية جرمانيا” لأدولف هتلر (التي لم تُبن مطلقا) وقصر جوزيف ستالين للسوفييت (ناطحة سحاب أعلاها تمثال عملاق لفلاديمير لينين، لم يُبنَ مطلقا) يهدفان بالضبط إلى جذب الزوار الأجانب الجالبين للأموال. إن المباني المذهلة اليوم تهدف إلى خلق “تأثير بلباو” (تحول مدينة الباسك الإسبانية إلى مركز سياحي رئيسي من خلال متحف غوغنهايم للفن المعاصر الذي صممه المهندس المعماري فرانك جيري) وتأثير الخندق (إبقاء القادة في السلطة).

الشعبوية لا تتعلق فقط بالاحتلال الرمزي للفضاء الحضري، وإنما بتطوير إستراتيجيات لترسيخ صورة "الشعب الحقيقي"

وقرر أردوغان بناء مساجد جديدة في جميع أنحاء تركيا، بما في ذلك جامع تشامليجا الضخم في إسطنبول الذي يمكن أن يستوعب أكثر من 60 ألف شخص ويمكن رؤيته من أي مكان تقريبا في المدينة. وأصبح المسجد الكبير هو أيضا ما يراه أولا أولئك الذين يغادرون المطار الجديد العملاق. وفي 2020، حوّل الرئيس آيا صوفيا من متحف إلى مسجد، وحرر المبنى، على حد تعبيره، من “سلاسل الأسر”.

كما انتهى بناء مسجد قادر على استيعاب 4000 شخص في ميدان تقسيم المرتبط تقليديا بالعلمانية التركية والجمهورية التركية، ويرمز إليه بنصب تذكاري في وسط الميدان (يصغر الآن أمام المسجد). وتعززت العمارة الحديثة التي كانت رائدة بعد الحرب العالمية الثانية (من فندق هيلتون الشهير إلى مركز أتاتورك الثقافي) بمبان عثمانية جديدة. وتعوضها في بعض الأحيان تماما. وكان من أحد أكبر الهزائم الرمزية لأردوغان وقف خطة تدمير حديقة غيزي المجاورة لميدان تقسيم من أجل بناء مركز تجاري وإعادة بناء الثكنات العسكرية العثمانية بعد احتجاجات كبيرة. ويتّهم النظام اليوم بشكل تعسفي الأشخاص الذين لا يحبهم بالحضّ على احتجاجات غيزي.

لا تتعلق الشعوبية في المقام الأول بالاحتلال الرمزي للفضاء الحضري، وإنما بتطوير إستراتيجيات لترسيخ صورة “الشعب الحقيقي”. ويستحضر أوربان “العصر الذهبي” البرجوازي في أواخر القرن التاسع عشر بإعادة بناء باهظة الكلفة لمنطقة القلعة، بما يجعلها مقرا للحكومة، بدلا من المؤسسات الثقافية مثل المعرض الوطني. وغالبا ما تُصمم المباني الجديدة، على الرغم من ادعاء أنها “مخلصة” للأصول الأصلية في عصر هابسبورغ، من الصور التي تصور زخرفة حول هيكل خرساني، كمساجد أردوغان. وما يُزعم اليوم أنه تقليدي حقا هو غالبا مرمم بعد الحداثة. وبينما تخضع هذه المساحات إلى رقابة الشرطة المشددة والحراسة، فإنها تجسّد أيضا نقاط جذب للسياح.

إعادة التشكيل الشاملة

رموز يصنعها الشعبويون
رموز يصنعها الشعبويون

يُسخر اليوم من الحداثة، وخاصة “النمط الدولي”، وتُعتبر استعمارية. وحرص بعض الشعبويين (كرجل الأعمال السياسي اليميني المتطرف في هولندا تييري بودت والرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب) على قول إنها “قبيحة”. وبعد ما حدث في واشنطن في السادس من يناير 2021، نسي الكثيرون أن ترامب، في آخر أيامه في الحكم، أصدر أمرا تنفيذيا طلب فيه تصميم جميع المباني الفيدرالية الجديدة بأسلوب كلاسيكي.

واستثمر أردوغان (مثل نظيره أوربان) موارد هائلة في بناء ملاعب كرة القدم (بهدف جعل كرة القدم الوطنية عظيمة مرة أخرى)، وتسمية واحد باسمه. وكان لدى مودي في الأثناء أكبر ملعب كريكيت في العالم في غوجارات. وتقررت تسميته في البداية باسم بطل الاستقلال سردار فالابباي باتيل، ثم تغيّر الاسم مؤخرا إلى ملعب ناريندرا مودي.

يُذكر أن هذه المساحات، مثل الكنائس والمساجد، تمكن الجماهير من الشعور بالالتزام بمشروع مشترك، وإن كان فقط للاحتفال بفريق كرة القدم الوطني. ليس هذا الدرس حول استخدامات المساحات جديدا، حيث أوصى جان جاك روسو بالاحتفالات التي يكون فيها الشعب، وليس الملك، هو الفاعل الرئيسي. ونجح بالفعل بعد الثورة الفرنسية في تجنيد الجماهير للمشاركة في مسيرات ومهرجانات كبيرة، كانت أحيانا بلافتات عليها اقتباسات من كتب روسو.

 وتبقى الرموز أمرا قد لا يدركه المرء مباشرة. ويكمن أمر آخر في إنشاء مساحات يمكن للناس فيها ترسيخ هوية معينة من خلال العمل معا. وليس من المصادفة أن يستضيف مودي ترامب في ملعب الكريكيت الخاص به سنة 2020.

وتجمع المستبدين اليوم علاقة متناقضة مع عبادة الشخصية. وغطى مودي الهند كلها بملصقات يظهر فيها كما ظهرت في الحديقة التي اغتيل فيها غاندي لوحة تؤكد على ضرورة رعاية القائد للفقراء. لكن صورة مودي فيها كانت أكبر من صورة المهاتما. غير أن هؤلاء القادة يدركون أيضا أن إضفاء الطابع الشخصي المفرط على السياسة من السهل أن يُذكِّر الجمهور المحلي والدولي بالدكتاتوريات في القرن العشرين.

وأشار سيرغي غورييف ودانيال تريسمان (اللذان اقترحا التناقض المهم بين الحكم بالتخويف والحكم بالتلاعب السياسي) إلى أن القادة الشعبويين قد يكونون أفضل حالا بعرض صورة المدراء الأكفاء الذين يصادف أنهم ماهرون جدا في تنفيذ الإرادة من “الشعب الحقيقي”. ولا تعتبر المعالم التي أقاموها من سبل إرهاب الدولة، لكنها ترسل إشارة حول من ينتمي ومن لا ينتمي. ويساعد هذا شخصيات مثل أوربان على أن تظل الحدود داخل الاتحاد الأوروبي مفتوحة، بحيث يمكن للشعب غير الحقيقي المغادرة في أي وقت.

Thumbnail

وينطبق نهج “لا تجعل الأمر واضحا جدا” أيضا على إعادة التشكيل الشاملة في نيودلهي. وأعاد مهندس مودي المعماري المفضل، زميله بيمال باتيل، تصميم المساحات الكبيرة أمام المباني الحكومية بعدما كانت من إنجازات السير إدوين لاندسير لوتينز خلال عقود الحكم البريطاني الأخيرة. وبدلا من استبدال هذه المباني (التي غالبا ما تضمنت مجموعة متنوعة مما اعتبره لوتينز نموذجيا لأجزاء مختلفة من الهند) تقرر بناء أخرى جديدة بجوارها. وكان تشييد مبنى البرلمان الثلاثي الضخم مثلا مقابل المبنى الدائري القديم بينما يتواصل بناء مكاتب جديدة بما يذكر الزوار في الكثير من الأحيان بواشنطن.

واعتمدت لهجة تكنوقراطية لتبرير العديد من التغييرات (تكييف هواء أفضل، ممرات سفلية، إضاءة محسّنة، مروج نظيفة ومُعتنى بها جيدا، موقف سيارات، المزيد من دورات المياه). وتتماشى مع صورة مودي كمروّج في مجال الأعمال والتكنولوجيا. وتعدّ العناصر الأخرى مشحونة أكثر. وأعيدت تسمية ما كان يُعرف باسم “طريق الراج” بكارتافيا، أي طريق الواجب. وتقرر تركيب تمثال عملاق لسوبهاش تشاندرا بوز تحت مظلة بجوار بوابة الهند التي تحيي ذكرى أولئك الذين سقطوا في الحروب العالمية.

ويعتبر بوز بطل مقاومة حركة الاستقلال الهندية ضد البريطانيين، على الرغم من أن اسمه ملوث أيضا بمحاولاته لتشكيل تحالفات مع ألمانيا النازية واليابان أثناء الحرب. والأهم من ذلك، أنه يؤيد القومية الهندية غير المرتبطة بحزب المؤتمر، الذي حقق استقلال الهند ولا يزال الخصم السياسي الرئيسي لمودي اليوم.

ولا يزال البرلمان قيد الإنشاء، مع مبنى جديد لرئيس الوزراء. ومن المنطقي توقع أن هذه المباني لن تجعل التزام مودي تجاه هندوتفا (جوهر شعبويته اليمينية التي تستبعد غير الهندوس عن “الشعب الحقيقي”) واضحا للغاية. ويتحقق هذا الالتزام أكثر ببناء المعابد الهندوسية (وهدم المساجد) وإنشاء مساحات تجعل المواطنين يضعون هويتهم الهندوسية أولا (على عكس كونهم عمالا، على سبيل المثال).

الهندسة والديمقراطية

Thumbnail

حتى لو لم تكن المباني عبارة عن آثار مباشرة للكبرياء والأنا، عادة ما تكون طرق إنشائها أوتوقراطية، بتجاوز الحكومات المحلية والإعلان عن حالات الطوارئ لاستكمال المشاريع (كما حدث في بودابست)، حتى أثناء إصابة بقية البلاد بالشلل بسبب الوباء. كان الإعلان عن أن البناء هو “خدمة أساسية” يجب أن تستمر، كما هو الحال في نيودلهي. الهندسة المعمارية لا تعتبر مشروعا ديمقراطيا حتى في أفضل الأوقات. ولا يحاول اليمينيون الشعبويون حتى تبرير ما يفعلونه بعمليات التصميم المفتوحة، لكنهم يحاولون جذب من يعتبرونهم من الشعب بدلا من ذلك.

ولاحظ لاسويل أنه “إذا كانت الأفعال أعلى صوتا من الكلمات، فغالبا ما تتحدث الأشياء بصوت أعلى منهما”. وستبقى معالم كثيرة بعد فترة طويلة من خروج الشعبويين اليمينيين من السلطة. وقال أردوغان عند افتتاح مسجد تقسيم الجديد “إن شاء الله سيبقى حتى آخر الزمان”. ومن الواضح أن الحكومات غير الشعبوية سترتكب خطأ إذا قررت إزالة كل شيء في نوع من أعمال التطهير الرمزي. فمن شأن هذا أن يعزز الشعور الذي يغذيه القادة الشعبويون بأن كل معركة سياسية هي معركة وجودية، وأن كل انتخابات قد تكون مقدمة لحرب أهلية.

لكن السلبية الكاملة في مواجهة المعالم التي تزيف التاريخ بوعي أو ترسل رسائل الإقصاء ستكون خاطئة أيضا. فكر في نصب أوربان التذكاري لاحتلال ألمانيا النازية للمجر في 1944، وصمم في 2014 خلال ليلة واحدة، ولم يتم افتتاحه رسميا، بل قوبل باحتجاج المواطنين الذين يرون فيه محاولة لإنكار أي تواطؤ مجري في الهولوكوست. ويمكن التراجع عن مثل هذه النصب التذكارية، أو على الأقل وضعها في سياق بحيث لا توجد رسالة تنكر عبرها الدولة نفسها ما وقع خلال الهولوكوست.

وقد تجتمع العناصر الشعبوية في المشهد الحضري مع الآثار المضادة والعمارة المضادة. والأهم من ذلك أن البلدان التي تتعافى من الشعبوية قد تريد الاستثمار في شيء يتجاهله العديد من القادة الشعبويين: الإسكان ميسور الكلفة لـ”الشعب الحقيقي” المتصور الذي يدعي الشعبويون أنهم يمثلونه.

10