العلاقات الزوجية وتعقيداتها.. الحصان الرابح للدراما

وجدت الدراما المصرية في القضايا الاجتماعية كنزا مدفونا لجذب الجمهور إليها عبر تناول قصص وحكايات واقعية، واحتلت مشكلات العلاقات الزوجية مساحة لافتة فيها؛ فعدد كبير من الأعمال التي عرضت خلال الأشهر الماضية بدت أقرب إلى محاكاة الواقع دون تزييف أو تجميل، وهو ما منحها قدرا من الحيوية الفنية، لأن هناك شريحة من الجمهور تعتبرها انعكاسا لحالها وأحوالها.
القاهرة - حقّقت حكاية “بدون ضمان” المكوّنة من عشر حلقات وعرضتها قناة “دي إم سي” المصرية قبل أيام معادلة جيدة عندما نسج المؤلف يسري الفخراني قصة حقيقية حول نماذج من العلاقات الزوجية الفاشلة التي تتحطّم نتيجة التربية الخاطئة للزوج أو الزوجة وتصوّرات كليْهما لمؤسسة الزواج. واختار تقديم نموذجين مختلفين بالتوازي، إحداهما لفتاة اسمها “مريم” من عائلة ميسورة قامت بدورها هنادي مهنا، والأخرى “علا” التي تنتمي إلى أسرة بسيطة وجسّدتها الفنانة هاجر أحمد.
واستغل كاتب السيناريو والحوار يوسف وجيه التناقض الواضح على المستوى الاجتماعي والمادي في حياة الفتاتين والنتيجة الواحدة وهي الطلاق، ونجح في أن يمضي بهما في خطين متوازيين منفصلين إلى أن وجد ثغرة منطقية للجمع بينهما، ويلتقيا من خلالها في قالب درامي متقارب مع حفاظه على الفروق في معاناة كليهما. وبدت مريم بعد نحو ست حلقات سندا اجتماعيا لعلا وتقاسمتا المعاناة والرضاء خلال الحلقات الأربع المتبقية من العمل بعد الجمع بينهما في مكان عمل واحد.
تفاعل مع الحكاية

رغم الفوارق المادية والاجتماعية بين الفتاتين مريم وعلا، إلاّ أنهما عاشتا المأساة ذاتها، وهي الطلاق
قد تكون نماذج عدم التوافق في الزواج معتادة والوصول في النهاية إلى الطلاق مسألة طبيعية، غير أن جودة العمل جعلت الجمهور يتفاعل مع تطوّرات الحكاية المكوّنة من عشر حلقات على مواقع التواصل الاجتماعي، ما منح هنادي مهنا المزيد من الثبات في خطواتها الفنية المتقدّمة إلى الأمام، ووفّر لهاجر أحمد درجة من الكشف عن موهبتها الفنية، خاصة أن الشخصية التي تقمّصتها وأجادتها تنتمي إلى جنوب مصر المعروف بـ”الصعيد” والذي تختلف لهجة سكانه عن بقية لهجات البلاد.
لم تكن المبارزة أو المباراة الفنية بين هنادي وهاجر فقط، بل شملت تقريبا غالبية الفنانين والفنانات الذين أجادوا أدوارهم واضعين أقدامهم على عتبات النجومية؛ حيث تمكن الفنان إسلام جمال الذي قدّم شخصية “شريف”، وهو زوج مريم في الحكاية، من تقديم دور جديد عليه يتمثل في دور الشاب الذي يريد الاستئثار بها وقطع علاقتها بأسرتها والانصياع لوالدته التي يعيش معها في طابق من البيت تسكنه مع شقيقته.
كما نجح الفنان أحمد كشك الذي أدى دور “عصام” زوج علا في تقديم دور الطيب والمدمن والشرير، وهي الثلاثية المعروفة التي اشتهرت في الكثير من الأعمال الفنية من قبل وساعدته قدرته على التحوّل من النقيض إلى النقيض في تجسيد الدور بصورة واقعية، وهو ما استغلته مخرجة العمل ياسمين أحمد كامل في استخراج الجانب الفطري في كشك الذي ساعده شكله في أن يظهر الدور بصورة متماسكة، من حيث طريقة نطق الكلام والملبس والمسكن وشلة الأصدقاء والسهر معهم.
وجاء اختيار طاقم العمل موفقا، خاصة الفنان أحمد بدير الذي استغل حنكته في القيام بدور رجل الأعمال والد مريم الذي حذّرها من السكن بالقرب من والدة زوجها، وتحقّقت مخاوفه عندما أصبحت هذه الإقامة وبالا عليها وسببا رئيسيا في الوصول إلى مرحلة الطلاق، في ظل تدخلات والدة زوجها التي جسّدتها الفنانة سلوى عثمان التي ساعدتها خبرتها الطويلة في تجسيد شخصية هذه الوالدة وتحديد ملامحها.
وعلى العكس من ذلك كانت والدة زوج مريم سيدة طيبة، لكن تربيتها الخاطئة أدّت إلى الشخصية المشوّهة التي بدا عليها عصام، وهو الخيط الذي يلتقي فيه مع شريف من حيث حالة الضجر من الزواج وطقوسه والندم بعد الوقوع في أخطاء جعلت كلا منهما يعرف أنه أخطأ في حقّ زوجته الأولى.
حكاية “بدون ضمان” هي الحكاية الثالثة في مسلسل “إلاّ أنا” بعد “بيت عز” و”بالورقة والقلم”، ويشير عنوانها إلى أن الزواج لا أحد يعرف نتيجته مسبقا، ومن الضروري أن يتمّ التريّث في الاختيار والبحث عن التوافق والتفاهم، وأن الحب ليس كافيا لحياة زوجية هادئة، فهناك مكملات لا تقل أهمية يمكنها أن تلعب دورا في نجاحه أو فشله.
الفصل والتقاطع الفني
حرصت الحكاية على أن تكون للفصل والتقاطع الفني في الأحداث والشخصيات جدوى فنية، فلم يستغل المخرج التشابه في الدوافع التي أدّت إلى الطلاق في الحالتين، وحاول إيجاد هامش للحركة كي لا يصبح العمل قائما على التناقض فقط، واستغلاله في الصعود والهبوط الدرامي. وقد تمخّض زواج علا عن حمل وإنجاب طفلة بعد الطلاق، بينما خرجت مريم دون أطفال.
ولجأ المؤلف إلى الاستفادة من عملية الحمل والولادة بعد الطلاق وأدخل العمل في إشكالية إنكار النسب الذي ادّعاه عصام على علا حتى لجأت إلى ساحات القضاء لإثبات أبوته التي تنصّل منها في البداية تماما، وهي جزئية ربما تحمل جانبا من الواقع، غير أنها تحتاج إلى عمل فني بمفرده، ما جعل المخرجة تطوي هذه الصفحة سريعا من خلال ندم الزوج وحنينه إلى طفلته التي اعترف بها بعيدا عن القضاء.
أصبحت الأحداث التي تجري في المجتمع المصري -خاصة المتعلقة بمؤسّسة الزواج من حيث غرابتها وما يصاحبها من اندهاش- مادة غنية يغترف منها مؤلفو الدراما، ما يطرح السؤال القديم الجديد: هل الفن مطلوب منه أن يجسّد المجتمع بحذافيره أم يقوم بتطوير أدواته لينهل منه الناس ويستفيدون في سعيهم لتحسين المستوى الاجتماعي؟
يقول البعض من النقاد “على الفن ألا يكون منفصلا عن الحياة”، وهي الفكرة التي تبدو سهلة لدى الكثير من مخرجي الدراما الآن، فزخم المشكلات يمنحهم أفكارا جاهزة أقرب إلى المعلبة، ربما تبعدهم عن الخطابة؛ فمن السهل عندما يُسأل المخرج أو الفنان عن العمل وما يحمله من مشاهد سوداوية أن يرد بأن ذلك يحدث، وهي ثيمة سهلة تشجّع على الكسل ويمكن أن تؤدّي إلى عدم الإبداع.
ومن الملاحظ أن الكثير من الأعمال الدرامية تلجأ إلى المجتمع وتكاد تخاصم التفكير خارج الصندوق لأسباب متعدّدة، وينطوي ذلك على استفادة في توسيع الحركة أمام القوة الناعمة المصرية على المدى البعيد، لأن الاستسهال في تصوير الواقع للجمهور قد يصيبه لاحقا بالملل وعدم الرغبة في المتابعة، لاسيما أن منصات التواصل الاجتماعي باتت أكثر نشاطا وأسرع من التلفزيون.
من هنا يأتي التركيز على مسألتي الجودة الفنية والإتقان، وهو ما سعى له نجوم حكاية “بدون ضمان” وحاولوا جميعا -خاصة الشباب- أن يكونوا في مستوى الثقة التي منحت لهم، مثل هنادي مهنا وهاجر أحمد وإسلام جمال، فضلا عن جالا هشام التي لعبت دور شقيقة شريف، وكيرا الصباح التي قامت بدور زوجته الثانية.
تعمدت مخرجة العمل أن تكون النهاية مفتوحة ليستطيع الجمهور وضع السيناريو الذي يريده؛ هل ستعود علا إلى زوجها بعد أن اعترف بخطئه وبدأ يسعى لإصلاح أحواله والعيش مع طفلته؟ وهل ستجد مريم في اختيارها زوجا ثانيا حياة مستقرة لم تعشها مع الأول؟ وهل ستنتقم زوجة شريف الثانية منه بسبب ظلمه لمريم؟
هي سلسلة ممتدة من الأسئلة تركتها النهاية بلا إجابات حاسمة، الأمر الذي يلجأ إليه البعض من المخرجين كنوع من الإثارة أو جرّاء تعدّد النهايات والخيارات، وربما يكون المقصود منها التفكير في تقديم جزء ثان من الحكاية الأولى.