العرب في الأولمبياد: نصف الكأس الفارغ والملآن

إنجاز مميز حققته بطلات الأولمبياد العربيات رغم العوائق والظروف غير الملائمة التي تعترض المرأة في ممارستها للرياضة حتى إن سعت الحكومات لتقديم الحوافز وتشجيع الرياضة النسائية.
الخميس 2024/08/15
رفع مستوى المنافسة العربية

تابع الجمهور العربي أداء رياضييه في الألعاب الأولمبية التي استضافتها فرنسا، ممنيا النفس بانتصارات ترفع رايات بلاده بين الأمم.

انتهت الأولمبياد واختلف التقييم حول المشاركة العربية، بين من اعتبرها حققت نجاحا باهرا وبين من رآها مخيبة للآمال. وربما كان الواقع في مرتبة وسط بين نصف الكأس الفارغ والممتلئ.

فمن ناحية حققت ألعاب باريس أكبر حصاد من الميداليات الذهبية منذ بداية المشاركات العربية في الألعاب الأولمبية، إذ حصل الرياضيون العرب هذه المرة على 7 ميداليات ذهبية من إجمالي 17 ميدالية.

لكن من ناحية أخرى لم تفز سوى سبع دول بميداليات من بين 22 دولة عربية، بل إن بعض البلدان العربية لم تفز في هذه الدورة ولا أي دورة سابقة من الألعاب الأولمبية بميدالية واحدة.

موضوعيا، كانت الحصيلة العربية بالمقارنة مع بقية دول العالم متواضعة. فأنت لا تجد دولة عربية واحدة من بين الثلاثين دولة الأولى في جدول الميداليات. وما حققته البلدان العربية مجتمعة كان أقل من حصيلة نيوزيلندا، الدولة التي يبلغ عدد سكانها حوالي 5 ملايين نسمة.

من الأكيد أن حظوظ الدول لا تتساوى في المنافسات الرياضية الدولية. وقد حاولت العديد من الدراسات تفسير أسباب فشل الأمم أو نجاحها في مثل هذه المنافسات، وخاصة منها الأولمبياد.

تدارك الإخفاقات يتطلب مراجعات هادئة من أجل تجاوز الهنات، سواء ما تعلق منها بقلة الإمكانيات المادية أحيانا، أو بمختلف مظاهر سوء الإعداد وضعف الإحاطة والتنظيم، التي بعثرت أوراق العديد من المشاركين والمشاركات

هناك بالطبع عدد سكان الدول المشاركة. دولة دومينيكا في الكاريبي والتي لا يتجاوز عدد سكانها 73 ألف نسمة ما كانت تطمح للتفوق على الدول الكبرى المهيمنة على المنافسات والتي يعد سكانها بعشرات الملايين (وإن كانت هذه الدويلة تفوقت في ترتيب الميداليات على العديد من الدول العربية).

عدد السكان ليس بالطبع كل شيء. فالهند رغم عدد سكانها الذي يتجاوز 1.4 مليار نسمة جاءت في المرتبة 71 متأخرة عن دول بعضها لا يبلغ عدد سكانه المليون نسمة. وفشلها الدائم في المنافسات الرياضية الكبرى لغز طالما حير الجميع.

في تفسيرهم للأداء الرياضي للأمم يجد الخبراء علاقة أوثق بين عدد الميداليات التي تجنيها الدول ومعدل الدخل الفردي فيها. أي أن الأداء الرياضي يعكس في نهاية المطاف درجة النمو الاقتصادي للبلدان وتوزيع ثمار ذلك النمو على مواطنيها.

في الواقع تفتقد معظم الدول العربية سياسات للتنمية البشرية تخصص للرياضة المكانة التي تستحقها من حيث تعميم ممارسة الرياضة على كافة مواطنيها بلا استثناء وتشييد التجهيزات الرياضية في كل مدينة وقرية. كثيرا ما يتوجه الاهتمام في المنطقة العربية للرياضات ذات القيمة الفرجوية ويسهو الجميع عن الرياضات الفردية وعن بناء التجهيزات التي تضمن فرص الممارسة الرياضية للجميع.

في الولايات المتحدة تخصص المدارس والجامعات جانبا كبيرا من أوقات الدراسة لممارسة الرياضة، في حين لا تزال الكثير من بلدان المنطقة ترى في حصص الرياضة بالمدارس نشاطا هامشيا من شأنه أن يشتت أذهان التلاميذ بلا فائدة.

وفي الوقت الذي ليست فيه تقريبا مدرسة ثانوية في الولايات المتحدة لا يتوفر فيها مسبح وملاعب لممارسة مختلف الرياضات، هناك بلدان عربية ليس فيها إلى اليوم مسبح أولمبي واحد.

تقول الدراسات كذلك إن أداء الفتيات في المنافسات الرياضية الدولية ليس معزولا عن وضعهن الاجتماعي في بلدانهن.

وبخصوص المشاركة النسائية العربية في أولمبياد باريس يبدو المشهد أيضا بمثابة الكأس التي نصفها ملآن ونصفها الآخر فارغ.

فقد حققت المرأة العربية في مونديال باريس إنجازا كبيرا بحصولها على خمس ميداليات، ثلاث منها ذهبية.

ولكنه إنجاز حققته بطلات الأولمبياد العربيات رغم العوائق والظروف غير الملائمة التي تعترض المرأة في ممارستها للرياضة، حتى إن سعت العديد من الحكومات لتقديم الحوافز والتشجيعات للرياضة النسائية.

فالفتاة لا تجد دوما ضمن الأسرة والمجتمع ظروفا تشجعها على متابعة التمارين والمشاركة في معسكرات التدريب والالتحاق بالدورات الرياضية الرسمية في الخارج.

وحتى في مواكبة أولمبياد باريس عبر وسائل التواصل الاجتماعي شاهدنا ممارسات مؤسفة تعكس محاولات بعض الأفراد والقطاعات ضمن مجتمعاتنا فرض تصوراتهم على مظهر الفتاة المشاركة في الألعاب والمس من حريتها الفردية.

شاهدنا البعض مثلا على موقع فيسبوك يلتجئ لتطبيق فوتوشوب لتعديل صورة لاعبة الجمباز الجزائرية الفائزة بالميدالية الذهبية في ألعاب باريس كيليا نمور بإضافة قطعة افتراضية من القماش لتغطية ساقيها، بالرغم من أن الزي الذي كانت ترتديه هو الزي المصادق عليه من قبل الهيئات الدولية.

لا يدري هواة الرقابة المتسلحون بالفوتوشوب أنهم بتصرفهم ذلك يسلطون أطنانا من الضغط النفسي الجائر على المتباريات العربيات في الوقت الذي يتوهمون فيه أنهم يرفعون الحرج الأخلاقي عن أنفسهم.

كنا نظن أن الأمر يتعلق بسلوكيات انتهت مدة صلاحيتها واندثرت تماما. ولكن الواقع غير ذلك على ما يبدو.

هناك بالتأكيد تطور في النظرة السائدة للمرأة، ولكن بعض ممارسات اليوم تبدو إلى حد كبير شبيهة بممارسات الأمس. لما شاهدت الاستعمال العبثي للفوتوشوب تذكرت وقائع مشابهة منذ قرابة العقدين من الزمن، عندما كانت مجلات عربية تصر، عند نشرها لإعلانات تتضمن صورة للبطلة الأولمبية التونسية حبيبة الغريبي (وهي تركض في مضمار الأولمبياد في لندن)، على أن تضيف طبقة من الطلاء الأزرق على صورة العداءة حتى تغطي رجليها.

معظم الدول العربية تفتقد سياسات للتنمية البشرية تخصص للرياضة المكانة التي تستحقها من حيث تعميم ممارسة الرياضة على كافة مواطنيها بلا استثناء وتشييد التجهيزات الرياضية في كل مدينة وقرية

لكنه من دواعي التفاؤل أن تكون ألعاب باريس شهدت تطورا ملحوظا في الصلابة النفسية للرياضيين والرياضيات.

فقد أظهر الكثير من المتبارين والمتباريات، وخاصة منهم الفائزون والفائزات بالميداليات الذهبية، تركيزا وتصميما على الربح يعكسان ثقة كبيرة بالنفس.

كان ذلك واضحا من خلال مواقف وتصريحات أبطال وبطلات مثل الجزائريتين كيليا نمور وإيمان خليف والعداء المغربي سفيان البقالي ولاعب التايكواندو التونسي فراس القطوسي وأخصائي ألعاب القوى المصري أحمد الجندي وغيرهم. كان من الواضح أن هؤلاء الأبطال والبطلات يضعون الفوز بالمرتبة الأولى نصب أعينهم ولا شيء غير ذلك.

لكن البعض الآخر من الرياضيين والرياضيات مازال يبدي هشاشة نفسية وجسمانية تجعله يتوقع الهزيمة حتى قبل أن تنتهي المنافسات بوقت طويل وأحيانا قبل أن تبدأ. ولما يفقد المتبارون، أفرادا وفرقا، الثقة بأنفسهم فهم يجدون صعوبة في المحافظة على نسق المنافسة أو في تدارك تأخرهم في النتيجة. وهم وفي حالات عديدة يضيعون في متاهات الاحتجاح المتكرر وغير المجدي على قرارات الحكم.

هشاشة الرياضيين من هشاشة مجتمعات لم تستبطن بعد القدرة على مغالبة المنافس الأجنبي والانتصار عليه سواء في الرياضة أو سائر المجالات الأخرى.

يزيد من هذه الهشاشة تصرف الجمهور عندما لا يقبل الهزيمة. ذلك أن فشل الرياضيين والرياضيات في الصعود على منصة التتويج لا يبرر حملات التنمر التي لقيها البعض منهم على المنصات الإلكترونية.

يتطلب تدارك الإخفاقات مراجعات هادئة من أجل تجاوز الهنات، سواء ما تعلق منها بقلة الإمكانيات المادية أحيانا، أو بمختلف مظاهر سوء الإعداد وضعف الإحاطة والتنظيم، التي بعثرت أوراق العديد من المشاركين والمشاركات.

هنات كان يمكن اجتناب معظمها لو أن جميع الهيئات المشرفة على فرق بلدانها كان لها الوعي الكافي بأهمية المنافسة في الأولمبياد باعتبارها محفلا عالميا يمكن أن يساهم في نحت صورة مشرقة لدولها وللعرب قاطبة.

هناك اليوم حيز كاف من الوقت كي تكون المشاركة العربية في أولمبياد لوس أنجلس بعد أربع سنوات فرصة للتدارك ورفع مستوى المنافسة العربية.

8