"العرب" بعد عشر سنوات من رحيل المؤسس
بدأت “العرب” رحلتها التي قاربت أربعين عاما، مغامرة فردية في المهجر، وكأني بمؤسسها الحاج أحمد الصالحين الهوني، الذي تمر اليوم ذكرى رحيله العاشرة، يقرأ المستقبل ويستشرف الحالة التي وصل إليها العرب بعد أربعة عقود على صدور العدد الأول من لندن.
لم يكن اختيار عميد الصحافيين المهاجرين العرب للعاصمة البريطانية لانطلاق مغامرته الإعلامية، ميلا غربيا، فهو رغم السنين العديدة التي أقام فيها هناك، لم يتحدث إلا اللغة العربية، ولم يتناول من الطعام إلا الأطباق العربية، ولم يتخل يوما عن العباءة العربية.
تمسك الحاج أحمد الصالحين الهوني بالقيم العربية، والثقافة العربية، واختياره “العرب” اسما يطلقه على المولود الجديد، لم يكن بدافع الانغلاق والتقوقع، بل هو النافذة التي من خلالها أطلَّ على الغرب من موقف الند وموقف المساوي. وهو رغم انتقاده للسياسات الغربية تجاه القضايا العربية الساخنة، كان أيضا يكن الاحترام والتقدير للجوانب الإنسانية في الحضارة الغربية.
عندما حط الرحال في لندن، اختار منزلا قريبا من قصر الملكة، وواظب خلال سنوات إقامته على كتابة افتتاحية سنوية خصصها لتهنئة الملكة بعيد ميلادها، شاكرا جلالتها على استضافة “العرب”. في الوقت نفسه كان قلمه الجريء لا يرحم السياسيين البريطانيين من النقد.
كان رحمه الله ليبراليا حرا أكثر من رواد عصر النهضة، ومغامرا يؤمن بالعلم والتكنولوجيا أكثر من الشباب، وفوق ذلك كله يؤمن بحق الآخر في الاختلاف، ويؤمن بحق الشباب في التجربة حتى وإن أخطأ، وفوق ذلك كله كان مدركا لخطر المتاجرة بالإسلام في مشاريع سياسية رغم تديّنه وورعه. وكان واضحا، بما لا يقبل الشك، في تشخيصه لمخاطر أن يُمتهن الإسلام لكي يشق صفوف الأمة العربية والإسلامية تحت مسمّيات الطوائف والمذاهب والملل.
من عباءة “العرب” تخرجت أجيال من الصحافيين آمنت بعدالة القضايا العربية، ووضعت حجر الأساس لمشروع أثبتت الأيام أهميته ومشروعيته وجدواه. وتحول مبنى الصحيفة إلى خلية نحل ومدرسة يدخلها العشرات ويخرج من بابها العشرات.
واليوم، بعد عشر سنوات من الرحيل، يشهد العالم ومن ضمنه العالم العربي تغيرات كبيرة، سياسية، وأمنية، واقتصادية، وثقافية، وتكنولوجية، تغيرت بفعل منها ثوابت كثيرة، وكان المشهد الإعلامي واحدا منها. ورغم تعدد الضحايا، وتنوعها، نجتْ “العرب” وأورقت ونبتت إلى جانبها روافد إعلامية حيرت المتابعين والمختصين.
“العرب” لم تحظ يوما بمصادر تمويل ودخل تفوق أندادها، ممن غادروا الساحة الإعلامية، أو أُدخلوا غرفة الإنعاش، ما حظيت به “العرب” هو الرؤية الاستراتيجية السليمة، والقدرة على قراءة المستقبل.
لم يترك الحاج أحمد الصالحين الهوني خلفه مؤسسة تتآكلها البيروقراطية، وتتحكم في مصيرها عقول هرمة أشد ما تخشاه دخول دماء شابة إليها، بل ترك وراءه نوافذ مشرعة وأبوابا مفتوحة وأروقة يجول فيها الجميع بحرية.
ونجح الحاج في توظيف مصادر الدخل بشكل صحيح، وبدلا من الإسراف الذي زعزع المؤسسات الأخرى ووضعها على إيقاع غير منطقي، لا يعكس حقيقة العمل الصحافي، تمكنت “العرب” من إيجاد حلول عملية لمسألة الكفاءة والجدوى، موظفة في ذلك الفرص التي أوجدتها تكنولوجيا الاتصالات، لتصمد لاحقا في وجه التغيرات التي طالت صناعة الإعلام، وتحوز على إعجاب منافسيها الذين تساءلوا: كيف يمكن لـ”اليتيم” أن ينمو، وقد رأينا ديناصورات ورقية تتهاوى، ما هي المعادلة؟ ما هو السر؟
ولأن “العرب” تفرح لنجاح الآخرين وانتصاراتهم، تضع معادلتها وخلطتها البسيطة للنجاح أمام الجميع: لقد أثبتت “العرب” أن البيئة الصحية السليمة أهم ركن من أركان النجاح، وأن الأفراد، مهما علا شأنهم، سيذبلون وتضيع مواهبهم إن هم انتهوا في تربة فقيرة، وسيزدهرون ويورقون في البيئة الصالحة.
إن مؤسسة “العرب”، بمختلف فروعها، إذ تشق طريقها اليوم واعية بالمنعرجات والمطبات التي تمر بها الأمة، فإنها ترى نفسها أكثر من مجرد صحيفة، بل مشروعا إعلاميا وفكريا تنويريا يتصدّى لأداء واجباته تجاه الفضاء الذي تنطق باسمه، ورهانها في ذلك أفكار المؤسس وإصراره، وتلك أمانة كبرى تقع على عاتق المؤسسة وأبنائها.
المستقبل، على عكس ما يدعيه كثيرون، يصنعه أفراد، و”العرب” التي وضع بذرتها الأولى أحمد الصالحين الهوني، يقف اليوم على رأسها أفراد يجيدون قراءة المستقبل، ويجيدون الإبحار في ظروف صعبة تحمل الكثير من المفاجأة.
رئيس التحرير والمدير العام