العراق والشرق الأوسط الجديد

الولايات المتحدة تتبنى فكرة صناعة شرق أوسط جديد.
الاثنين 2024/10/21
في غمرة الصراع الدائر في لبنان وغزة عادت الدعوات إلى رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط

في غمرة الصراع الدائر في لبنان وغزة عادت الدعوات إلى رسم خارطة جديدة للشرق الأوسط، والتخلص من كل ما يعكر صفو السيطرة الأميركية على أغلى بقعة عقار في العالم كما قال روزفلت، فشاع مصطلح برنارد لويس “الشرق الأوسط الجديد”، ولم تكن الفكرة جديدة أو عابرة، بل هي مخطط لها ومدروسة بعناية منذ العقد الخامس من القرن الماضي.

 وما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها حتى ترسخ اعتقاد لدى الساسة في واشنطن بناءً على فكرة برنارد لويس بأن “من يريد أن يسيطر على العالم عليه أن يسيطر أولا على الشرق الأوسط”، لما تتمتع به هذه المنطقة من موقع جغرافي، وما تحتويه من مخزون كبير للطاقة بالإضافة إلى وجود أهم ممرات الملاحة في العالم.

ولعل أهم سبب دفع برنارد لويس والأميركيين إلى فكرة السيطرة وإنشاء شرق أوسط جديد هو الحيلولة دون قيام تحالف إقليمي لدول الشرق الأوسط ونشوء قوة عظمى تبسط سيطرتها على الكثير من دول العالم، لما تتمتع به من مقومات لمثل هذا النموذج، حين ذلك سيمثل هذا التحالف تهديداً حقيقيّا لأي قوة عظمى تسعى إلى الهيمنة على العالم.

◄ لقد خططت الولايات المتحدة، واعتمادا على نظرية برنارد لويس، لأن تفصّل شرقا أوسط جديدا ضمن مقاسات مريحة

وعلى سبيل المثال لو تحالفت إيران والسعودية والعراق وشكلت هذه البلدان اتحادا إقليميا، فماذا سيحدث؟ السعودية التي تمتلك أعظم احتياطي نفط في العالم والعراق ثاني أكبر احتياطي نفط وإيران التي تمتلك مخزوناً مهولاً من الغاز والنفط والثروات، ناهيك عن الموقع الجغرافي، فهذه الدول تنتج بحدود 20 مليون برميل نفط، أي ما يعادل 25 في المئة أو20 في المئة من احتياج العالم اليومي للنفط، بالإضافة -لو افترضنا- إلى انضمام دول أخرى ذات مخزون بشري وموقع جغرافي هام، مثل مصر وتركيا، إلى البلدان سالفة الذكر، ماذا سيحدث؟

لذا تبنت الولايات المتحدة فكرة صناعة شرق أوسط جديد، وجعلتها ضمن أولويات السياسة الخارجية لها.

على أن يتم ذلك طبقاً لمخطط برنارد لويس الذي عرضه في الكونغرس رسميا في الثمانينات. ويقضي بتقسيم دول الشرق الأوسط وإثارة النعرات الطائفية والقومية، وهو الذي جرى بالفعل منذ الربيع العربي في السودان وليبيا واليمن ولبنان وسوريا والعراق، ‏وفق إستراتيجية عنوانها: “الحفاظ على وضع الشرق الأوسط ممزقا وبالتوازن المطلوب للحفاظ على مصالحها (الولايات المتحدة) العسكرية والسياسية والاقتصادية”.

وعلى رأس هذه الأولويات دعم إسرائيل والحفاظ على تفوقها العسكري والأمني والتكنولوجي.

وبما أننا أوردنا اسم برنارد لويس وخطته، أصبح من الضروري أن يتعرف القارئ عليه.

من هو برنارد لويس؟

هل يتحقق حلم برنارد لويس بشرق أوسط جديد
هل يتحقق حلم برنارد لويس بشرق أوسط جديد

 يهودي بريطاني ولد عام 1916 في لندن وحصل على الجنسية الأميركية، صاحب فكرة “الشرق الأوسط الجديد “، متخصص في التاريخ الإسلامي، خريج جامعة سواس البريطانية، وأستاذ في جامعة برنستون الأميركية، يتحدث العربية والفارسية والتركية، وهو عراب نظرية تقسيم الوطن العربي، من خلال إثارة النزعات الطائفية والعرقية. توفي عام 2018.

 اشتهر بكونه أحد أهم المنظرين والخبراء في شؤون الشرق الأوسط، وتحليلاته بشأن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي تعتبر مرجعاً مهماً للباحثين، كما أنه درس ظاهرة انتشار الإسلام الجهادي، قال عنه المؤرخ الأميركي جول بنين من جامعة ستنافورد: برنارد لويس أكثر مناصري الصهيونية تعصباً، وكان وزير الدفاع الأميركي الأسبق ديك جيني أحد أشد المعجبين به، كما أن دونالد ترامب مهووس بكلماته ونظرياته بالنسبة إلى الشرق الأوسط.

بعد أن أطلق برنارد لويس في الخمسينات مصطلح وفكرة الشرق الأوسط الجديد، تبنت الإدارات الأميركية المتعاقبة هذا المصطلح وفكرته وتطبيقه. ولعل أشهر من تبنى هذا المصطلح في المراحل المتأخرة وزيرة الخارجية الأميركية كوندا ليزا رايس إبان الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 وعبرت وقتذاك عن الحرب بـ”الولادة القاسية للشرق الأوسط الجديد”.

◄ بعد العراق سيكون الهدف القادم إيران وسوريا. وستكون إسرائيل سيدة هذا الشرق الأوسط الجديد المفترض، طبقا لمفهوم محوري النقمة والرحمة

 ففي كل حرب تدور بين إسرائيل والمقاومين العرب يظهر للعلن وبقوة مصطلح الشرق الأوسط الجديد، واليوم يعود الإعلام ليتداول هذا المصطلح.

مفهوم الشرق الأوسط الجديد

في المفهوم الأميركي هو الشرق الأوسط الخالي من المنغصات، الذاعن والتابع للسياسة الأميركية، المتقبل لإسرائيل كدولة متفوقة، وحامية للمصالح الغربية.

يقول برنارد لويس في أطروحته: لتحقيق الشرق الأوسط الجديد، لا بد من السيطرة على منابع النفط واستمرار تدفقه، وافتعال الأزمات بين الدول وتفجيرها من الداخل، خصوصاً الدول ذات الإمكانيات الاقتصادية والبشرية الكبيرة، وذلك لتحجيم أدوارها، وتأجيج الصراع فيما بينها، لضمان بيع الأسلحة بشكل واسع للمنطقة، مثلما حدث في الحرب العراقية – الإيرانية، التي دامت ثماني سنوات استنزفت إمكانات البلدين، وعُطلت طاقات أكبر بلدين في المنطقة وراح ضحيتها أكثر من مليون شخص، وقد قال صدام حسين بعد انتهاء الحرب إنها كانت خدعة دفعنا لها، وقد عطلت جانبا كبيرا من قدرات إيران والعراق الخيرة.

وجاء الزلزال الكبير والفرصة العظيمة لتحقيق ما تصبو إليه الولايات المتحدة في تنفيذ مشروعها “الشرق الأوسط الجديد” والذي فتح الباب على مصراعيه لتفتيت المنطقة ألا وهو “غزو الكويت”، وهي القشة التي قصمت ظهر المنطقة.

وحوصر العراق وحوصرت إيران وأنهك البلدان.

 والحدث الأهم في نتاج الحرب العراقية – الإيرانية الذي أراد البعض تحويلها إلى صراع قومي “عربي – فارسي”، هو تواجد القوات الأميركية لأول مرة في مياه الخليج في عهد الرئيس رونالد ريغان في ثمانينات القرن الماضي، وعمل الأميركان اتفاقيات دفاع مشترك مع بعض دول الخليج، بحجة البعبع الإيراني والعراقي.

◄ لعل أهم سبب دفع برنارد لويس والأميركيين إلى فكرة السيطرة وإنشاء شرق أوسط جديد هو الحيلولة دون قيام تحالف إقليمي لدول الشرق الأوسط ونشوء قوة عظمى تبسط سيطرتها على الكثير من دول العالم

وأسقط الحكم في العراق ودخلت الدبابات الأميركية وحاكمها، ليبدأ عصر جديد من التفتيت والانقسامات، بعد فقد العراق قوته وجيشه ومؤسساته الحكومية.

ثم جاء ما يسمى بثورات “الربيع العربي”، وأعلن الفيلسوف الأميركي الياباني الأصل فرانسيس فوكاياما عن مصطلح جديد لشرق أوسط جديد هو ” الفوضى الخلاقة” التي أكملت خطة تفتيت الشرق الأوسط.

ودمرت سوريا واليمن وليبيا وكادت مصر تقع في قبضة الفوضى لولا حسابات كامب ديفيد.

العراق في دائرة الخطر

في السابع من أكتوبر عام 2023 كان العالم على موعد مع عملية “طوفان الأقصى”، وبالتزامن مع صعود الحكومة اليمينية المتطرفة برئاسة بنيامين نتنياهو، العملية التي فاجأت إسرائيل وأميركا والمنطقة، وظن البعض ممن آمن بقوة الجيش الإسرائيلي والدعم الأميركي أنها لن تدوم طويلا، لكنها تجاوزت السنة وفتحت معها جبهات عديدة، وقصفت القنصلية الإيرانية في دمشق لترد إيران بضربة صاروخية على إسرائيل، وفي الثامن من أكتوبر، أي في الذكرى السنوية لعملية طوفان الأقصى، كان الحدث الأبرز الهجوم على لبنان وقبل ذلك اغتيال حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله في 27 – 9 – 2024، لتتسع حدة الصراع.

وقف العراق موقفا حازما وقاطعاً مع لبنان وغزة، ما جعله في وسط بؤرة الصراع، لاسيما وأن في العراق فصائل مقاومة مسلحة ترتبط عقائديا أيدولوجيا مع باقي ساحات المقاومة، وتعمل بمبدأ “وحدة الساحات”.

وصار الخطر يقترب أكثر من وحدة أراضي بلاد الرافدين، وتعالت أصوات التقسيم والأقاليم، ورأت واشنطن أن الفرصة سانحة لتلقي بذور التقسيم في بلد يبدو مهيّئا لهذا العمل، فأعلنت عن تسليح قوات البيشمركة ودعم بعض الجهات الداعمة لفكرة التقسيم. وفيما لو نجحت أميركا في تقسيم العراق، ستنطلق أولى خطوات الشرق الأوسط الجديد من العراق، باعتباره يمثل العقبة الكأداء في طريق مشروع الشرق الأوسط الجديد المفترض.

العراق وقف موقفا حازما وقاطعاً مع لبنان وغزة، ما جعله في وسط بؤرة الصراع، لاسيما وأن في العراق فصائل مقاومة مسلحة ترتبط عقائديا أيدولوجيا مع باقي ساحات المقاومة

وبعد العراق سيكون الهدف القادم إيران وسوريا. وبقية بقاع هذا الشرق الجديد، ستكون إسرائيل سيدة هذا الشرق الأوسط الجديد المفترض، طبقاً لمفهوم محوري النقمة والرحمة الذي طرحه نتنياهو وهو يرفع الخارطتين في الجمعية العامة للأمم المتحدة.

لقد خططت الولايات المتحدة وإسرائيل، واعتمادا على نظرية برنارد لويس، لأن تفصّل شرقا أوسط جديدا ضمن مقاسات مريحة بالنسبة إليها، لكن هناك حسابات أخرى ربما لا تتوقعها أميركا قد تحدث وينقلب المشهد، فهناك معطيات خارج حسابات الصندوق.

فإطالة أمد الحرب ليست في صالح أميركا، وهي التي توقعت أن إسرائيل ستنهي مهمتها في أيامٍ معدودات، وها نحن دخلنا العام الثاني من الحرب، ولا يزال الحسم بعيداً، فهل سيتحقق حلم برنارد لويس في الشرق الأوسط الجديد؟ ربما يكون ذلك ولكن بمنظور مختلف.

6