العراق على شفا أزمة دستورية وسط تحذيرات من التدخل في استقلال القضاء

بغداد – اعترض الرئيس العراقي عبداللطيف جمال رشيد على دعوة ائتلاف إدارة الدولة لعقد اجتماع تداولي لمناقشة التنازع بين قرارات المحكمة الاتحادية العليا ومحكمة التمييز الاتحادية، معتبرا هذا التوجه "يتعارض ومبدأ استقلال السلطة القضائية".
وهذا الموقف الحازم يأتي في وقت تشهد فيه أعلى سلطة قضائية في البلاد، المحكمة الاتحادية العليا، أزمة غير مسبوقة تتمثل في استقالات جماعية لأعضائها، مما ينذر بتعقيدات دستورية وقضائية جديدة تضاف إلى المشهد السياسي العراقي المتقلب.
وفي وثيقة صادرة بتاريخ 19 يونيو، اعتبر الرئيس رشيد أن دعوة ائتلاف إدارة الدولة "تفتح المجال واسعاً للتدخل في الشأن القضائي"، مقترحاً بدلاً من ذلك توجيه دعوة لانعقاد مجلس القضاء الأعلى لمناقشة مسألة التنازع بالقرارات بين المحكمتين.
هذا الموقف الرئاسي يتماهى مع موقف سابق لرئيس مجلس النواب العراقي، محمود المشهداني، الذي رفض بدوره طلبا من رئيس المحكمة الاتحادية العليا، القاضي جاسم العميري، لعقد اجتماع تحضره الرئاسات وجميع أعضاء ائتلاف إدارة الدولة لفض النزاع القضائي.
وبحسب وثيقة رسمية، رد المشهداني على العميري بالقول إن "عقد الاجتماع المذكور يتقاطع مع مبدأ الفصل بين السلطات، وأن طبيعة عمل المحكمة يجب أن تبقى مستقلة ومحايدة ولا يجوز التدخل فيها من جهات تنفيذية أو تشريعية أو رقابية".
وشدد المشهداني على أن معالجة الخلافات أو التفسيرات الدستورية ليست من اختصاص الهيئات المشتركة أو الاجتماعات العامة، بل هي من صميم عمل المحكمة ضمن اختصاصها القضائي الحصري وفقاً للدستور، مؤكداً أن "أي تدخل في شؤونها يُعد انتهاكاً لمبدأ استقلال القضاء المنصوص عليه في المادة 87 من الدستور". واعتبر الاجتماع المقترح "لا فائدة منه قانونياً" بل "يُكرّس سابقة تمسّ استقلال القضاء وتخلّ بالفصل بين السلطات".
يأتي موقف رشيد والمشهداني في ظل حدوث "أزمة" استقالات جماعية داخل المحكمة الاتحادية العليا، أعلى سلطة قضائية في العراق، بسبب قضية خور عبدالله.
وقدم ستة أعضاء أساسيين وثلاثة أعضاء احتياط في المحكمة استقالاتهم الخميس، احتجاجا على طريقة إدارة رئيس المحكمة وتعاطيه مع القضاة، بحسب شبكة رووداو الإعلامية.
ووصف عضو في المحكمة سلوك رئيس المحكمة بـ"غير المقبول"، مضيفا "سئمنا من التعامل مع أسلوب عمله".
وبينما أشار القاضي إلى صعوبة حل المحكمة وإمكانية وضع أشخاص آخرين مكان المستقيلين، ذكر نائب في البرلمان العراقي، سوران عمر، أن "ذريعة القضاة هي وجود مشكلة مع رئيس المحكمة، لكن السبب الحقيقي غير واضح حتى الآن".
وفقا لمعلومات رووداو، فإن القاضي الكردي ديار محمد علي من بين الأعضاء الستة الأساسيين المستقيلين.
ومن جهته، أكد عضو اللجنة القانونية في مجلس النواب، النائب رائد المالكي، أن الاستقالات تعود إلى "الضغوط" التي تُمارَس على المحكمة بشأن قضية خور عبدالله.
وقال المالكي في تصريح صحافي صادر عن مكتبه الإعلامي إن "الحكومة وجهات أخرى تريد للمحكمة الاتحادية أن تكون أداة طيعة بيدها لتنفيذ ما تراه بحجة حماية المصالح العليا"، مؤكداً أن "هذا الوضع لا يمكن السكوت عليه".
واتهم المالكي "القيادات الشيعية المتصدية" بالفشل في "بناء دولة مؤسسات تحترم سيادة الدستور والقانون"، مشيراً إلى "تشاور مع بقية النواب لاتخاذ موقف موحد من هذه القضية، التي تمثل سابقة خطيرة".
وعلى الرغم من أن هذا الخلاف بين الجهازين القضائيين هو الأول من نوعه، إلا أن معظم المراقبين يرون أن القرارات الكبرى للمحكمة الاتحادية تقترب من وجهات نظر سياسية لزعماء أحزاب كبيرة، أبرزهم نوري المالكي.
يُعرف المالكي بأنه يمتلك نفوذا واسعا على القضاء من خلال مصالح وولاءات حزبية وسياسية وتفاهمات أسس لها خلال فترة رئاسته الحكومة بين عامي 2006 و2014.
وللعراقيين ذكريات عديدة مع قرارات المحكمة الاتحادية المثيرة للجدل، منها إقالة رئيس البرلمان السابق محمد الحلبوسي، وإيقاف العمل بقانون العفو العام بطريقة غير قانونية، وانتزاع حق تشكيل الحكومة من الكتلة الفائزة في انتخابات 2010 (ائتلاف العراقية بزعامة إياد علاوي) ومنح المالكي فرصة للبقاء لولاية ثانية عبر تفسير "الكتلة الأكبر".
كما شملت قرارات المحكمة إعادة فرز الأصوات يدوياً في انتخابات 2018 بناءً على طلب زعماء أحزاب (كان أبرزهم المالكي)، وقرار عدم دستورية قانون النفط والغاز لحكومة إقليم كردستان وإلغائه، ثم الحكم بمنع تمويل رواتب موظفي الإقليم.
والمحكمة الاتحادية العليا، التي أنشئت في عام 2005، ومقرها بغداد، وتتألف من رئيس وثمانية أعضاء، تختص بالفصل في النزاعات الدستورية وتعتبر قراراتها باتّة وملزمة للسلطات كافة.
ورغم أنها يفترض أن تكون مستقلة وفق الدستور العراقي، إلا أن الأحزاب النافذة تناوبت على طرح أسماء قضاة يمثلونها، حيث لا يوجد قانون يمنع عنها التأثيرات السياسية، ما يدفع سياسيين بين فترة وأخرى إلى المطالبة بتشريع قانونها الخاص.
وتأتي هذه التطورات وسط تصاعد الخلافات السياسية والقانونية بين العراق والكويت بشأن ملف خور عبدالله، وما ترتب عليه من تداعيات إقليمية وحكومية، ما ينذر بأزمة دستورية وقضائية جديدة داخل مؤسسات الدولة العراقية.
وقد قدم كل من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء العراقيين طعنين منفصلين إلى المحكمة الاتحادية العليا، طالبا فيهما بالعدول عن قرارها القاضي ببطلان قانون تصديق اتفاقية خور عبدالله مع الكويت، مستندين في دفوعهما إلى الدستور العراقي واتفاقية فيينا لعام 1966، وبحسب ما اوردته وكالة الانباء الكويتية "كونا" منتصف أبريل الماضي.
واعتبر الطعنان أن الاتفاقية تتعلق بتنظيم الملاحة وليس بترسيم الحدود، وتشكل جزءاً من التزامات العراق الدولية التي لا يجوز التراجع عنها.
وكانت المحكمة الاتحادية العليا قد أقرت في الرابع من سبتمبر 2023 بعدم دستورية القانون 42 لسنة 2013 الخاص بتصديق الاتفاقية، لمخالفة أحكام المادة (61 / رابعاً) من الدستور التي نصت على ضرورة تصديق المعاهدات بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.
في سياق متصل، أكد رئيس المحكمة الاتحادية العليا، القاضي جاسم محمد عبود العميري، خلال لقائه رئيس الجمهورية في منتصف يونيو، على ضرورة إيجاد حل نهائي لصرف المستحقات المالية لموظفي إقليم كردستان. غير أن أزمة الاستقالات داخل المحكمة قد يعيق ذلك، بحسب مراقبين وسياسيين.
وكانت وزيرة المالية، طيف سامي، قد وجهت نهاية مايو الماضي، كتابا بوقف تمويل رواتب موظفي إقليم كردستان، على خلفية تجاوز حصته في الموازنة، وهو ملف معلق منذ سنوات بين الشد والجذب مع الحكومة الاتحادية، تحولت فيه رواتب الموظفين إلى "سلف" تقدم للإقليم بعد توقف تصدير النفط عبر ميناء جيهان التركي.