العراق أمام فرصة نادرة للاستثمار المُحكم في فوائض بيع النفط

تجمع الأوساط الاقتصادية العراقية على أن بلدها بات أمام فرصة نادرة لوضع خطط مُحكمة لاستثمار فوائض إيرادات النفط، في ظل انتعاش الأسواق العالمية، بشكل يقطع مع النموذج القديم في إدارة أموال الدولة، لكنها ربطت نجاح ذلك أولا بإقرار موازنة 2022 التي لا تزال عالقة بسبب عدم تشكيل البرلمان.
بغداد – يدفع ارتفاع عوائد بيع النفط وتحسن أرقام أداء الاقتصاد العراقي الكثير من المتابعين إلى النظر بعين التفاؤل في إمكانية استثمار الفوائض المالية المتوقعة في أوجه كانت بعيدة عن الحكومات السابقة التي علقت بها سلبيات سوء الإدارة وإهدار المال العام.
ويكافح البلد الذي شهد حروبا وحصارا خلال العقود الأربعة الماضية بحثا عن حلول تساعده في تحفيز التنمية، التي ظلت متوقفة منذ الغزو الأميركي في 2003، وتخفيف مستوى البطالة وتضييق دائرة الفقر وفي الوقت ذاته تنويع مصادر الدخل.
ووفق تقديرات صندوق النقد الدولي، فإن العراق سيجني إيرادات نفطية هذا العام بنحو 149 مليار دولار، أي بارتفاع بحوالي 73 في المئة على أساس سنوي.

سلام سميسم: علينا الحذر من ضياع الأموال وضياع الرقابة عليها
ولكن العقبة الأساسية أمام المضي قدما في توظيف تلك الفوائض، هي تأخر إقرار موازنة العام الجاري بسبب عدم الاتفاق على تشكيل برلمان جديد حتى الآن. والأهم مدى قدرة الحكومة على إنفاق الأموال في الأوجه الأكثر إلحاحا لبناء الاقتصاد المتعثر.
ومع ذلك، تشي تصريحات المسؤولين بأن بوصلة اقتصاد ثاني أكبر منتج في منظمة أوبك بعد السعودية تتجه نحو التنمية بخطوات مدروسة بعد أن حققت مبيعات النفط فائضا ماليا.
ويقول خبراء إن ثمة إرادة سياسية للقطع مع الماضي للاستفادة من الوفرة المالية والتي كانت الحرب الروسية – الأوكرانية سببا رئيسيا في انتعاش الأسعار لتتجاوز حاجز المئة دولار للبرميل.
وكان وزير المالية علي علاوي قد أشار خلال وقت سابق هذا الشهر إلى أن بلاده ستحقق فائضا من فارق تجارة النفط بحدود العشرين مليار دولار هذا العام. وأكد أنه “في ظل الوفرة المالية الحالية من المستبعد اللجوء إلى الاقتراض”.
ويرجح أن تنعكس الخطوات التي اتخذتها الحكومة عبر الورقة البيضاء التي أعلنت عنها على التنمية الاقتصادية بشكل واضح وهو ما أفصح عنه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي.
ونقلت وسائل إعلام محلية عن الكاظمي قوله مؤخرا إن “الحكومة نجحت خلال عامين في تحقيق أعلى معدل نمو على المستوى العربي وفق صندوق النقد الذي توقع أن يصل المعدل إلى 9.5 خلال عامي 2022 و2023”.
ويؤكد خبراء بأن العراق بحاجة إلى استغلال فرصة نمو الإيرادات واستثمار الفائض المالي في إنجاز مشاريع تنموية كبيرة وتحفيز سوق العمل، في ظل توقعات بوصول احتياطات العملة الصعبة هذا العام إلى مستوى قياسي عند أكثر من 90 مليار دولار.
ويعتقد مظهر صالح المستشار المالي لرئيس الوزراء أن الإنفاق مرتبط بموازنة 2022 من خلال أبواب الإنفاق الاستثماري المستحدثة والبرامج الاستثمارية الجديدة وليس بالصرف بنسبة 1/12 من المصروفات الفعلية الجارية في العام 2021.
ونسبت وكالة الأنباء العراقية الرسمية إلى صالح قوله إن “متوسط الإيرادات النفطية سيزيد بنسبة لا تقل عن 60 في المئة قياسا بعام 2021، ما يعني أنه سيكون هناك احتياطي مالي كبير متوفر للدولة في نهاية العام ربما يتخطى الأربعين مليار دولار”.

طارق الأنصاري: إنفاق الأموال بعناية سيقلص البطالة ويخفض القروض
ورغم الصعوبات يكافح المسؤولون العراقيون لإدخال البلد في آفاق التطور والتنمية المتسارعة لتخطي مرحلة الاقتصاد الريعي، إذ مازال النفط الخام يشكل الثقل الأكبر في مكونات الناتج المحلي الإجمالي.
ويفترض أن تحدد خطط التنمية الخمسية والعشرية معدلات نمو واضحة للقطاعات غير النفطية وأهمها الزراعة والصناعات التحويلية والخدمات الرقمية والسياحة لإحداث تغيير جوهري في تنويع اقتصاد ظل لسنوات مكبلا بمظاهر الفساد والبيروقراطية.
وترى الخبيرة سلام سميسم أنه يفترض أن توجه فوائض بيع النفط إلى مجالات تعاني من نقص التمويل، وأهمها سد فجوة العجز في الموازنة وتطوير الخدمات مثل الصحة، وأيضا توفير نفقات لسد احتياجات البطاقة التموينية وتحسين نوعيتها.
وتركز سميسم على نقطة مهمة ألا “وهي الرؤية الاقتصادية والاستفادة من هذه الأموال والحذر من ضياعها وضياع الرقابة والشفافية عليها”، خاصة وأنه لا توجد تقارير بالحسابات الختامية التي يزود بها ديوان الرقابة المالية الحكومة.
وحتى يتمكن البلد من القطع مع النمط القديم في إدارة أموال الدولة، ثمة مقترحات لإنشاء صندوق أو حساب يعنى باستقرار الموازنة السنوية ويغذى بنسبة من فوائض الريع النفطي للتحوط من مخاطر تقلبات الأسعار.
وليس ذلك فحسب، بل يرى متابعون أن الوقت يسمح اليوم باعتماد ضوابط مالية أكثر صرامة، مما سيجنب الحكومة اللجوء للاستدانة وتتحوط من صدمات أسعار النفط مستقبلا.
ويصف الخبير طارق الأنصاري انتعاش أسعار الخام جراء تداعيات الحرب في أوكرانيا بـ”انتفاضة السوق النفطية”.
وأرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب أولها تزايد الطلب على الوقود في أوروبا بسبب انخفاض مخزونها بنسبة 11 في المئة، وقيام الولايات المتحدة بالسحب من مخزوناتها النفطية الاستراتيجية، وتراجع الصادرات بالنسبة إلى كازاخستان وهي عضو في أوبك.

وقال الأنصاري إن “هذه الزيادة تمثل مؤشرا ناجحا على إنعاش الاقتصاد العراقي إذا ما استغلت بشكل سليم ضمن هندسة لامتصاص البطالة وخفض القروض والتي باتت تثقل كاهل الاقتصاد والموازنة العامة والمواطنين بشكل خاص”.
وثمة مطالب بأنه يجب أن تحذو الحكومة حذو ما فعلته البعض من الدول وخاصة دول الخليج النفطية بوضعها ضمن استراتيجية دعم الأجيال المقبلة عبر كيان سيادي تديره الدولة بعناية.
ويرى الخبير نبيل جعفر أنه من المهم العمل على تأسيس صندوق سيادي ليكون مصدا ماليا واقتصاديا “كون ارتفاع أسعار النفط لن يستمر وسنواجه في السنوات المقبلة عوامل هبوط في الأسعار لذلك الصندوق مهم للمحافظة لضمان المستقبل للأجيال المقبلة”. وأوضح أن هناك موجة جديدة من ارتفاع أسعار النفط ومن الممكن استثمار ذلك لكسر القيد المالي الذي يحول دون تنمية حقيقية.
وقال إن “الإيرادات الكبيرة من الممكن أن تخصص لإنشاء مشاريع استراتيجية مولدة للسلع والخدمات والمؤثرة في تحقيق قفزة نوعية للاقتصاد” بشكل عام.