العدالة الانتقالية.. حقل للاستثمار السياسي

النهضة تضرب مبدأ المساءلة والمحاسبة، باستدرار تحالف حكومي ونيابيّ جديد وتأمين قاعدة انتخابية واسعة تمكنها من البقاء في قلب دائرة الفعل السياسي إلى 2030.
الثلاثاء 2018/10/30
آلام المفجوعين ليست محل مزايدات

ثمة أطراف سياسية في تونس اختارت خطا ثالثا في مسار العدالة الانتقالية، ينأى بنفسه عن مسلكية هيئة الحقيقة والكرامة في هذا الملف الشائك ويحافظ على تأييد قواعد الحركة الذين يعدّون الحصة الأكبر من ضحايا الاستبداد والديكتاتورية.

ففي آخر خطاب له، اقترح رئيس حزب حركة النهضة راشد الغنوشي مبادرة “الاعتراف مقابل العفو“، مجترحا بذلك مسارا جديدا للعدالة الانتقالية من خلال “إقرار المتورطين في الانتهاكات” بالخطأ وكشف الحقيقة في مقابل سنّ قانون يضمن لهم العفو من كافة الجرائم المقترفة.

ولن نجانب الصواب إن اعتبرنا أنّ اقتراح الغنوشي جاء كخطوة التفافية ضدّ مسار إعادة المحاكمات بين القضاء العادي والقضاء الانتقاليّ، وتحويل الأخير بشكل من الأشكال إلى جلسات استماع جديدة يتحدث فيها الجاني عن أخطائه والضحية عن الانتهاك، لينال الأول العفو الشامل ويحصل الثاني على التعويض المادي أو الاعتباري.

وبهذه الطريقة يكون الغنوشي قد تدخّل في العدالة الانتقالية مرتين على الأقل، الأولى من خلال القفز على مرحلة المحاسبة والثاني عبر إلغاء العقوبات من تخصص دوائر القضاء الانتقالي وتحويل المحاكمات إلى فضاء استماع ومصارحة ومسامحة وتنفيس مجتمعيّ.

يريد الغنوشي عبر مبادرة “الاعتراف الكامل مقابل العفو الشامل“، جني ثمار سياسية عديدة لعلّ أهمها إزالة الشوائب السياسية عن التحالف الحكومي الجديد والذي سيضم “كتلة الائتلاف” الداعمة لرئيس الحكومة يوسف الشاهد و”كتلة الحرة” التابعة لحزب مشروع تونس، ومن المعروف أنّ كليهما يعارضان هيئة الحقيقة والكرامة أشخاصا ومسارا وإدارة للملفّ، ولكنهما في المقابل يصرّان على ضرورة اجتراح مقاربة جديدة للعدالة الانتقالية بمنأى عن إعادة المحاكمات ودموع “رجالات الدولة“، ولا يبدو أنّ مبادرة الغنوشي بعيدة عن مقاربة الكتلتين.

في سبتمبر 2017، ضرب الغنوشي مسار العدالة الانتقالية من خلال الموافقة على قانون المصالحة الإدارية الذي يقايض {الاعتراف بالعفو}

في المقابل، ترضي المبادرة الكثير من الأصوات النهضوية الرافضة للتعطيل الحاصل لجبر الضرر وللتعويضات التي طال أمد تسديدها – دون احتساب التعويض الحاصل من العفو التشريعي -، وهي أصوات قوية في داخل الحركة وتعبّر عن تململ صلب القواعد الحزبية والانتخابية لحركة النهضة.

هكذا يبني الغنوشي معادلة الحكم القائم والانتخابات القادمة، فالحلفاء الجدد من أبناء العائلة الدستورية التي كال لها المديح والتنويه في الخطاب سيستميلهم “الإقصاء الناعم” و”التجاوز الهادئ” لهيئة الحقيقة والكرامة ولرئيستها سهام بن سدرين، أما القواعد من أبناء الحركة ومن خزانها الانتخابي فسيكون جبر الضرر قد نزع فتيل التباين بينهم وبين القيادات سيما وأنّ الانتخابات العامة في الأفق.

كنّا نتمنى أن نتطرق إلى العدالة الانتقالية بعيدا عن مسار التسييس للرهان القائم والقادم، وكنّا نرجو أيضا أن تُشيّد سرديات الذاكرة ومقولات الكرامة واسترداد الحقوق بمنأى عن منطق الرابحين والخاسرين، ولكن في المقابل يبدو أن المسار بات “بيضة القبان” جدّ مربحة لحركة النهضة ولرئيسها راشد الغنوشي يوظفها كلّما ارتأى أن التنازل عن ملف من الملفات بمقدوره استدرار الأرباح وتحسين المواقع والمواقف.

في 2014، رفض راشد الغنوشي قانون العزل السياسي لقيادات حزب التجمع المنحل، بداعي أنّ هناك عدالة انتقالية وهيئة ستقوم على المسار، فيما كان الرهان خياطة ثوب التوافق والمحاصصة وتقسيم الغنائم مع الباجي قائد السبسي لما بعد انتخابات 2014. وكان له ما أراد على الرغم من أنّ انتخابات 2011 بنيت على مقولة “العدالة الثورية.

وفي سبتمبر 2017، ضرب الغنوشي مسار العدالة الانتقالية من خلال الموافقة على قانون المصالحة الإدارية الذي يقايض “الاعتراف بالعفو“، على الرغم من أنّ صلاحيات هيئة الحقيقة والكرامة النظر في قضايا الفساد المالي.

وفيما كان البرلمان يصادق على قانون المصالحة الإدارية ويعفي رجال الأعمال من الجرائم والتهم الموجهة لهم كانت النهضة تقبض الثمن تمكينا في وثيقة قرطاج 1 وتحسينا لموقعها في حكومة يوسف الشاهد الثانية.

أما اليوم، فالنهضة تضرب مبدأ المساءلة والمحاسبة، باستدرار تحالف حكومي ونيابيّ جديد وتأمين قاعدة انتخابية واسعة تمكنها من البقاء في قلب دائرة الفعل السياسي إلى 2030، وباستمالة رجالات الدولة السابقين الذين قد يرضيهم “الاعتراف والإقرار” عن الملاحقات الإدارية والزج بهم في السجون.

وفي كلّ مرة كان الغنوشي يستثمر في ملفّ العدالة الانتقالية، كانت الحقيقة تزداد ضبابية والغموض يزداد تسيّدا، والنهضة تجني أرباحا سياسية وتخسر أخرى في مزاد الربح الرمزي والاعتباري والمعنويّ.

12