"العداقة" لا تزال قائمة بين الشعوب العربية والولايات المتحدة

الثلاثاء 2016/11/08
المسألة الفلسطينية تقف حائلا أمام تقدير العرب لتمثال الحرية

غريبة وملتبسة، هي علاقة الشعوب العربية بالولايات المتحدة الأميركية، ويمكن تلخيصها في نحت لغوي يجمع بين الصداقة والعداوة في آن معا، بقولنا: إنها علاقة “عداقة”، فأغلب المواطنين العرب، يجهرون بمعاداة أميركا، ويدلّلون على مواقفهم بقائمة طويلة عريضة، تتعلّق بسياسات الإدارة الأميركية إزاء العالمين العربي والإسلامي، لكنهم -وفي الوقت ذاته- يتمنون السفر والعيش في هذا البلد المرغوب/المذموم، وهي حالة انفصام ظاهرة تدل عليها طوابير الطالبين لتأشيرات الدخول إلى أرض الأحلام.. نفس الطوابير -وبنفس العدد- تندد وتستنكر سياسات هذا البلد، وتنعته بـ”الجحيم وأرض الكوابيس”.

أغلب الاعتقاد أنّ من خلق هذا الانفصام لدى الشعوب العربية في العلاقة مع أميركا، هو انفصام آخر يتمثل في الفارق الملحوظ بين طبيعة الشعب الأميركي المشهود له بالطيبة والبساطة من جهة، والسياسة الأميركية التي ما انفكت تثير السخط عليها في كل أصقاع الأرض من جهة أخرى، هذا بالإضافة إلى “انفصامات” أخرى تخص سياسات الكثير من الأنظمة العربية في علاقاتها مع شعوبها.

الغريب أنّ علاقة العرب مع الولايات المتحدة على المستويين الرسمي والاجتماعي، قديمة وضاربة في القدم، فلقد كانت أميركا، التي أعلنت استقلالها عام 1776، تبحث عن الاعتراف الدولي، وكانت دول العالم آنذاك تحجم عن الاعتراف بالجمهورية الجديدة مراعاة لبريطانيا، وتقدم السلطان محمد بن عبدالله الثالث سلطان المغرب ليقدم للولايات المتحدة الأميركية أول اعتراف رسمي بها.

كان ذلك عام 1777 أي بعد عام واحد من إعلان استقلالها وبذلك أصبح المغرب هو أول دولة في العالم تعترف بالولايات المتحدة الأميركية، وفي العام التالي، وقعت معها معاهدة صداقة، مازالت سارية المفعول، وتعدّ أقدم معاهدة دولية في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، وكانت ثاني دولة عربية توقع معها معاهدة صداقة وتجارة هي سلطنة عمان عام 1833.

ووصل العرب إلى أميركا في هجرتين كبيرتين: الأولى في الثمانينات من القرن التاسع عشر، وكان معظمهم من اللبنانيين المسيحيين على وجه الخصوص، ومعظمهم من العِمالة غير الماهرة التي تسعى إلى تحسين ظروفها الاقتصادية، وهؤلاء سرعان ما قطعوا صلاتهم بالعالم العربي وذابوا تدريجيا في النسيج الأميركي، أما الموجة الكبيرة التالية التي أسست الوجود العربي في أميركا فقد بدأت على إثر حرب فلسطين عام 1948، ثم تلتها موجات أخرى في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وهؤلاء قدموا من فلسطين وسوريا ومصر والعراق واليمن، وهم أحسن تعليما وأكثر تمسكا بهويتهم العربية ودينهم الإسلامي أو المسيحي.

وقد قدمت الجالية العربية للمجتمع الأميركي نجوما في مختلف المجالات.. ومع ذلك لم تستطع هذه المساهمات أن تمحو صورة العربي في العقل الجمعي الأميركي، ومازالت العلاقة مع العرب، أو التودد إليهم، تعدّ من “المخاطر”، والعواقب غير المحسوبة في السياستين الداخلية والخارجية بأميركا.

وتبقى لتعلق الشباب العربي بأميركا أسباب كثيرة وواضحة، فلقد ذكرت دراسة تابعة لمركز الخليج للدارسات الاستراتيجية بأن ‏الدول العربية أصبحت بيئات طاردة للكفاءات العلمية وليست جاذبة أو ‏‏حاضنة لها، الأمر الذي أدّى إلى استفحال ظاهرة هجرة الأدمغة ‏العلمية العربية، خاصة إلى الولايات المتحدة، وذكرت أن 45 بالمئة من الطلاب العرب الذين يدرسون في أميركا لا يعودون إلى ‏‏بلدانهم.

ويرى محللون ومراقبون عرب وأجانب أنه إذا كانت أميركا تريد صداقة مع الدول والشعوب العربية الحقيقية، فإن عليها أن تسارع بتغيير هذه السياسات، ونزع هذا العداء المبطن عنها، وذلك باتخاذ سياسات ربح تقوم على الاحترام المتبادل، وخدمة المصالح المشتركة للطرفين معا.

أميركا بلاد اكتشفها وعمرها وطورها المغامرون والحالمون، و"لطالما انتمى التاريخ إلى الحالمين" كما قال أحد الشعراء

إن هذه الصداقة ستفيد الجانبين، وتفيد أميركا بقدر أكبر لأنها لن تكلف أميركا سوى اتخاذ سياسات ومواقف تتماشى والحق، والمنطق الإنساني والسياسي السليم. ولعل أهمّ متطلبات هذه الصداقة المساهمة في الحفاظ على وحدة وسلامة البلاد العربية، وحمايتها من التقسيم والتجزئة، وحلّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي حلا عادلا، يضمن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، والمساعدة في إقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل بالشرق الأوسط.

ومقابل ذلك، فإن غالبية العرب ستقدم إلى أميركا -وعن طيب خاطر- كل ما يمكنها تقديمه، كي تظل هذه الولايات المتحدة دولة عظمى محترمة ومقدرة، تعمل -كما ينص دستورها- على إحقاق الحق، وإعلاء كرامة الإنسان في كل مكان.

أرض الأحلام التي تتحقق

أميركا بلاد اكتشفها وعمّرها وطوّرها المغامرون والحالمون، و“لطالما انتمى التاريخ إلى الحالمين” كما قال أحد الشعراء.

بعد فوز أوباما بمنصب الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، عادت أصوات المؤمنين بنموذج الحياة الأميركية لترتفع من جديد مؤكدة أن النموذج الأميركي هو نموذج الحياة الأفضل لأي إنسان على وجه البسيطة.

يقول بدر، وهو سائق تاكسي في مدينة تونس، “سأعيش في أميركا ولو عند آخر رمق من حياتي”، ويضيف بدر (39 عاما) وهو يرتدي تي شيرت عليه صورة العلم الأميركي “لم ولن أفقد الأمل في الحصول على فيزا.. من لم يعش في أميركا لا يعرف الحياة”.

إذا قلت لواحد من محبي الإقامة في أرض الأحلام “صف لي أميركا في كلمات” فسوف يقول لك “حريات، فرص للنجاح، إمكانات متاحة للمبدعين، وتسامح بلا حدود، تسامح أوصل رجلا أسود مثل أوباما، وهو نجل مهاجر مسلم، إلى رئاسة بلد بغالبية بيضاء مسيحية، إنها قدرة على التجدد وتجاوز العقبات والنكسات”.

ويقول محمود طعم (تونسي يعمل بمكتب محاماة في واشنطن) “أميركا أرض المعجزات، كما أسماها أوباما نفسه”.

الولايات المتحدة تعتبر نفسها منذ مطلع القرن التاسع عشر، منارة للحرية والازدهار اللذين تحققت من خلالهما مجموعة من المبادئ الأخلاقية والفلسفية المطروحة من قبل مؤسسيها، وقد تمّ تنفيذها بشكل مثالي، بالإضافة إلى الثروات الطبيعية الهائلة.

وورد معنى “الحلم الأميركي” مرات عديدة على مدار التاريخ، ونجد أثره في سحر العالم الجديد وقدرة الفرد على تحقيق الرفاهية والعيش الكريم لنفسه ولعائلته.

يعتقد بأن أميركا هي الأرض التي تعتمد فيها فرص الإنسان في الحياة على الموهبة والطاقة، وليس على العائلة، أو الثروة، أو الاعتقادات السياسية.

ووفقا لذلك، يشمل “الحلم الأميركي” فرصة للأطفال في الحصول على التعليم الأميركي، وبالتالي فرصة العمل المناسبة. إنها الفرصة لاتخاذ القرارات الفردية دون اعتبار للقيود الطبقية، أو الطائفية، أو الدينية، أو العرقية.

قبعة العم سام لا تتعارض مع الحفاظ على الهوية الوطنية

لا بدّ من التأكيد بأن الشعب الأميركي، يصنف على أنه من أرقى الشعوب وأكثرها طيبة وكرما وتسامحا. وغالبية العالم تقدر هذا الشعب، وتثمن إنجازاته، وحضارته.

ومعظم الشعوب العربية تكن احتراما كبيرا للشعب الأميركي، وإعجابا بتفوقه ومنجزاته الحضارية الرائعة، ولعلّ أهم ما يميز هذا الشعب هو أنه يتكوّن من عدة شعوب وقد اتفقت على التعايش في كنف القانون، ولا ننسى أنّ العنصر العربي هو من مكونات الشعب الأميركي.

والذين يهتمون بالسياسة في أميركا نسبتهم لا تتجاوز 3 بالمئة، والباقي أكثر ما يهمه هو الالتفات إلى أسرته وعمله، ذلك أنّ لديه ثقة بالنخب السياسية التي تتولى إدارة البلاد.

يستشهد القائلون بأن أميركا هي أرض تحقيق الأحلام بقصة أميركية شهيرة.. خلاصتها أن معلما طلب من التلاميذ كتابة أحلامهم على ورقة، وتقديمها إليه كواجب مدرسي.

كتب التلاميذ أحلاما بسيطة تناسب واقعهم وعقولهم، عدا تلميذ واحد كتب حلما كبيرا يتجاوز واقعه وظروفه الصعبة.

رفض المعلم الورقة وطلب من التلميذ أن يغير حلمه بما يتناسب مع الواقع والظروف التي يعيشها.. وكتب على ورقة الطالب علامة “راسب” لأن الحلم في نظره خيالي وغير واقعي.

تمسك الطالب بحلمه ولم يبال بدرجة الرسوب، بعد سنين طويلة وصلت دعوة من أحد أثرياء المدينة، يدعو فيها المعلم والتلاميذ إلى مزرعة الخيول الكبيرة والشهيرة التي يمتلكها… وحين دخل المعلم وجد أمامه تلميذه “مونتي” صاحب الحلم الكبير.. وحين دخل البيت شاهد “ورقة حلم مونتي” التي رفضها وهي معلقة في صدر قاعة الاستقبال، وفي هذه اللحظة قال المعلم “عزيزي مونتي، يسرني أنك تمسكت بحلمك، وتبين لي أنني سارق أحلام.. يا إلهي كم حلما سرقته من الأطفال؟”.

ويحمل المتحمسون للسعي إلى الهجرة نحو أميركا على من يسمونهم بسارقي الأحلام، وهم أولئك الذين يحاولون ثني عزائمهم بتعداد مثالب ومساوئ العيش في الولايات المتحدة، لكن أخطرهم في نظر عماد (شاب لبناني) هم أولئك الذين يعيشون في أميركا، ويزايدون عليك بالوطنية، ويحاولون بث الرهاب لديك عبر الإكثار من الحديث عن التفرقة العنصرية، وكأنّ العرب يعيشون في مجتمعات مثالية لا طائفية ولا طبقية فيها.

ويقول عماد “هذا النمط حين يتكلم وهو في أميركا، يتحذلق ويتشدق على أساس أنه يمتلك معلومات لا يعرفها من هم خارج أميركا، وهو لا يصرّح أبدا بالسبب الحقيقي لفشله لكي لا يقال له "ظروفنا وقدراتنا تختلف عن ظروفك وقدراتك”.

كل أسباب الكراهية موجودة

أغلب العرب الرافضين لفكرة العيش في أميركا، هم من الذين لم يتسنّ لهم زيارتها، وتشكلت مواقفهم بناء على جملة من المعطيات هي في أغلبها من الإعلام، إلاّ أنّ هناك من زار وعاش بالفعل في الولايات المتحدة ثم عاد إلى بلاده، والنسبة الأكبر من هؤلاء هي من منطقة الخليج، وفي هذا الصدد يقول سلطان (مهندس سعودي درس في أميركا) بنفس غاضب “الأميركي إنسان لا يعرف بالتحديد ما يريد إلى أن يجده بالصدفة، وإذا تتبعت مسار حياته، تجده في بحث دائم عن المال والجنس ولا ثالث لهما إلاّ إن شاءت الظروف” ويضيف سلطان “الأميركي إنسان لا يملك إلا الفخر بأنه أميركي.. لماذا؟ لا يعلم.. بل قد أجزم أنه يفخر بذلك لمجرد أن الآخرين من الحمقى غير الأميركيين عوّدوه على أنه الأفضل”.

كراهية أميركا في أوساط المجتمعات العربية، لا تقتصر على الفئات التي يمكن وصفها بأصحاب الآراء المسبقة والمتأثرين بالشعارات، بل تجدها لدى فئات واسعة من المثقفين والليبراليين الذين يتشاركون مع الآراء السائدة حتى في أوروبا، حول نموذج المواطن العادي في أميركا، والذي إذا تأملت في حديثهم تجده في نظرهم بدينا، فقيرا، يرهن منزله مقابل المال.. يستنفد رصيده البنكي ويقترض على بطاقات ائتمانه ما لا يطيق سداده.. أي بصورة موجزة هو إنسان ينفق من غير ماله.

ويقول مصطفى وهو متديّن، وصاحب مشروع تجاري، كان يعمل في الولايات المتحدة وعاد إلى الأردن “الكثير من الأميركيين يفضلون البطالة والعيش عالة على معونة الدولة بدلا من العمل.. ولا تدع ما تشاهده في أفلامهم يخدعك”.

ويضيف مصطفى الذي تبرع ببناء مسجد في حيه “تجد المهاجرين في أميركا يعملون بهمة أكبر.. ومع ذلك لا ينالون إلا الازدراء والنظرات العنصرية والتفرقة الدينية”.

مشاعر السخط على أميركا تجدها لدى فئات واسعة من المثقفين والليبراليين الذين يتشاركون مع الآراء السائدة حتى في أوروبا

أول سبب يجعلنا نكره أميركا -في نظر نادية، صيدلانية من تونس- هو أن “أميركا تدعو إلى الحرية والديمقراطية والعدل ودولة القانون وحقوق الإنسان، ثم تقوم بإهدار كل تلك المعاني والقيم التي تدّعيها، وهذا لا يحتاج إلى برهان، فنحن نعيشه ونشاهده كل يوم على شاشات التلفزيون”.

عرب المشرق العربي -والمهتمون منهم بالشأن السياسي على وجه الخصوص- يربطون انزعاجهم وسخطهم على أميركا باستعداد إدارتها للتحالف مع «الإسلام الشيعي الإيراني» في مواجهة الدول العربية السنية، ورغبة أميركا في إعادة خارطة الأوضاع السياسية العربية بما يعزز صعود «الإسلام الشيعي» حتى لو أدّى ذلك إلى عدم الاستقرار في بلدان عربية تتسم بتكوين اجتماعي يجمع بين مكونات طائفية ومذهبية عاشت عقودا طويلة من التآخي الاجتماعي والإنساني مثل بلدان الخليج العربية كالبحرين والسعودية والكويت.

أعداء أميركا من المثقفين العرب، يربطون البعض من حركات الاحتجاج والتمرد التي تحدث في دول عربية وحتى في غيرها من البلدان، بمخططات أميركية، ويدللون على ذلك بما كشفته المجلة اليسارية الأميركية “كاونتر بنتش” من دور منظمات، مهمتها صناعة الثورات الشعبية ومن بينها منظمة “العطاء الوطني من أجل الحرية” ومؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي” و“بيت الحرية” و“معهد جورج سوروس للمجتمع المفتوح” وغيرها.

ولا يزال أبرز سبب لهذه العدائية، هو علاقة أميركا بإسرائيل واستمرار الصراع العربي- الإسرائيلي، وذلك على ضوء النقد العربي المستمر للانحياز الأميركي الفاقع والمتواصل لإسرائيل، وعدم إنصاف الشعب الفلسطيني وغياب العمل الجاد والحاسم لإنهاء مأساته الإنسانية المتفاقمة.

ما اصطلح على تسميته بـ“الحلم الأميركي” وقع نقده بشدّة والسخرية منه، ومن قبل كتّاب ومثقفين وفنانين أميركيين، فكيف للعربي أن يتبنى “كابوسا” ويتعامل معه على أنه “حلم”؟ هذا الحلم تقول عنه صحيفة التايمز البريطانية في تحقيق لها، “إن الأميركيين لا يعتقدون أنهم يمثلون شعبا استثنائيا ومتميزا، بسبب الديمقراطية أو القوة العسكرية لبلادهم، لكن بسبب الفرص المتاحة أمام من يبذل الجهد بلا توقف”.

12