العتاب وما بعده
في واحدة من أجمل قصائده وأكثرها إيلاما يقول أبوالطيب المتنبي معاتبا سيف الدولة الحمداني “يا أعدل الناس إلا في معاملتي/فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ”.
وكان الوشاة قد أحدثوا وقيعة بين الاثنين كادت تؤدي إلى قطيعة، وكان الشاعر قد وصفها، “إن كان سركمُ ما قال حاسدنا/فما لجرح إذا أرضاكمُ ألمُ” وهو ما يجعل من العتاب نوعا من التأكيد على عمق العلاقة.
فالمرء يعاتب مَن يحبّه، أما من لا يعنيه أمره، فإنه من وجهة نظره لا يستحق العتاب.
وفي ذلك تقول نجاة “حقك عليّ وسامح/وارحمني من ندم/علشان عتاب إمبارح/ده بس من عشم”، غير أن العتاب يكون أحيانا مؤلما وجارحا بحيث يتمنّى المرء لو أنه لا يسمعه لكي لا يعيده إلى لحظة سهو مرّت به.
وليس هناك أصدق في التعبير عن تلك الحالة من قول عبدالحليم حافظ وهو يخاطب شادية “بلاش عتاب يا حبيبي/ارحمني من العذاب يا حبيبي”.
وحين يتذكر حليم القطيعة يقول “مش بأبكي عليك/أنا بأبكي عليا/يا حبيبي”.
وقد تؤدي كثرة العتاب إلى اليأس، كما حدث لفيروز في واحدة من أغنياتها القديمة “حاجي تعاتبني يئست من العتاب/ومن كثر ما حملتني هالجسم ذاب/حاجي تعاتبني وإذا بدك تروح/روح وأنا قلبي تعود على العذاب”.
وهناك نوع من الشعر الغنائي اسمه “العتابا” أُشتق اسمه من معاتبة الدهر لما ينزل بالناس من مصائب ويؤدى ذلك الغناء على الربابة وحدها. وهناك الكثير من الأنين الحزين في الربابة.
و”العتابا” أنواع منها “الأبوذية” و”الموليا”، وهنا لا بد أن نتذكر سميرة توفيق وهي تقول “يا عين موليتين وثنعش موليه/جسر الحديد انقطع من دوس رجليه”.
وقد قيل في الأمثال “العتاب على قدر المحبة”، وكانت عفيفة إسكندر قد غنت قبل أكثر من سبعين سنة “بعيونك عتاب/وبقلبي الجواب/من بعد الغياب/جاييني بعتاب”. وكلما كان العتاب أكثر رقة كان أكثر ألما.
ولو لم يكن هناك عتاب لصرخ الناس من شدة الإحراج. عن طريق العتاب ينفّس الإنسان عن شعور يضايقه، غير أن أسوأ أنواع العتاب وأشدها قهرا هو ذلك الذي صرحت به السيدة أم كلثوم حين قالت “حسيبك للزمن” فالزمن هنا ليس شاهدا بل هو سوط، لا معنى بعده لأيّ عتاب.
