العتاب الإلكتروني يهدّد مقومات العلاقات الإنسانية

في خضم انشغال العالم بالفضاء الإلكتروني انتقل العتب بين الناس جرّاء عدم استدامة التواصل، وغياب تبادل الزيارات وتقديم الواجبات الاجتماعية من الواقعية إلى العالم الافتراضي، تحت مظلة ما يمكن تسميته بالعتاب الإلكتروني.
الاثنين 2018/07/23
العتاب الإلكتروني مساحة لتفريغ شحنات سلبية

عمّان - يلوم هذا ذاك على عدم قيامه بوضع علامة “إعجاب” تحت منشوره على فيسبوك، ويغضب آخر من صديق افتراضي لعدم تطابق تعليق الأخير مع آرائه، ليمتد الأمر بين المتخاصمين إلى استخدام خاصية “البلوك” كتعبير عن القطيعة الإلكترونية.

سهام، متقاعدة من وظيفة حكومية في الأردن، تقاطع صديقتها بسبب عدم قيام الأخيرة بإبداء الإعجاب على صورة حديثة لها نشرتها على صفحتها على الفيسبوك، ولم تقم سهام باستخدام خاصية “البلوك” فقط، بل قاطعتها فعليا رغم علاقتهما التي تمتد لأيام الطفولة مبررة ذلك بأن صديقتها لم تعد كالسابق وأنها ليست المرة الأولى التي تتجاهل فيها منشوراتها.

وعمدت وفاء (ربة بيت) إلى إلغاء حسابها على الفيسبوك لأنها لا تريد رؤية أيّ من الأصدقاء المفترضين من الذين لا يشاركونها بتعليقات ترتقي إلى سقف توقعاتها، مؤكدة أنها تفضل أن تخرج من العالم الافتراضي على أن تشعر بقلة أهميتها وتجاهل الأصدقاء لها ولما تكتبه وتنشره، معلقة “أصبحت وحيدة في العالمين الواقعي والافتراضي”.

ويقول مطوّر نظم المعلومات الإدارية داوود أبوحسان “بقدر ما أسهم فيسبوك في تقريب المسافات بقدر ما أدى إلى خلق فجوات بين البعض نتيجة ضحالة التفكير أو العقد النفسية، منوّها إلى أن المسألة تتعدى الإعجاب من عدمه في المنشور، إلى صلب العلاقات الإنسانية التي يفترض أن تُبنى على تبادل المعرفة والاحترام.

ويرى مدير إحدى الشركات الخاصة عثمان محارمة أن فيسبوك تحديدا أظهر الوجه الحقيقي لأشخاص بعينهم حيث خاب ظنه من بعض الناس، معتقدا أنه تسبب جرّاء سوء الاستخدام بخراب العلاقات الأسرية لنلحظ ازديادا في نسب الطلاق، كما أفقدنا الكثير من الأشخاص لمجرد أننا نعارضهم بالرأي أو التوجّه في إطار العتاب الإلكتروني الذي أتى على الكثير من مقوّمات العلاقات الإنسانية وديمومتها.

ويوضح بسام زين الدين (مصرفي) من خلال مطالعاته في علم النفس في سياق التثقيف الذاتي، تعلم أنه على الإنسان ألاّ يستهين بأي شيء، وأن يأخذ بالاعتبار خواطر الناس ومشاعرهم فلا يجرح ولا يغضب ولا يتنمّر عليهم حتى لو عاتبوه إلكترونيا.

ويعزو خبراء في علمي النفس والاجتماع وفق وكالة الأنباء الأردنية “بتراء” فكرة “العتاب الإلكتروني” إلى انعدام الثقة بالنفس والسطحية في التفكير وضعف التسلح بالعلم والمعرفة وغياب الأسس الحقيقية لمعنى الصداقة وعرى الروابط الاجتماعية وقيمها الأصيلة.

العتاب الإلكتروني يرجع إلى انعدام الثقة بالنفس والسطحية في التفكير وغياب الأسس الحقيقية لمعنى الصداقة

ويقول أستاذ الإرشاد النفسي والتربوي في جامعة عجلون الدكتور نايف الطعاني إن الأصل في وسائل التواصل الاجتماعي أن تكون اجتماعية بامتياز بمعنى التواصل والحوار والنقاش وحتى المجاملة في إبداء الآراء لغايات معيّنة من جملتها الدعم المعنوي والنفسي لأشخاص بعينهم يكونون في أشد الحاجة إليهما، غير أن ما يحدث حقيقة أن المتواصلين نقلوا أيضا طباعهم وكيفية تعاطيهم مع المجتمع من الحياة الاعتيادية إلى الحياة الافتراضية، فكما يعتب شخص على آخر لأنه لم يزره منذ مدة على سبيل المثال، كذلك يعتب على صديق مفترض لأنه لم يشاطره الرأي أو يؤيده به.

ويرى الطعاني أن هذا العتاب ينسحب على الجنسين، مشبها ما يحدث بمفهوم مرتبط بعلم النفس يسمى “البكاء من أجل المساندة”، وكأن الناس يهربون إلى العالم الافتراضي بحثا عن اهتمام أو دعم لا يجدونه في الحياة الواقعية رافعين سقوف توقعاتهم بحجم مشاركة كبيرة لما ينشرون،غير أنهم يصدمون حقيقة بأن العالم الافتراضي لا يختلف كثيرا عن الواقعي فهو نتاج لمشاركين حقيقيين يحملون ذات الصفات وينقلونها إلى هذا العالم.

ويؤكد أن من يعتب على أصدقائه عبر منصات التواصل الاجتماعي يعاني من فقدان الثقة بالنفس ويحتاج لإعادة ترتيب أولوياته، موضحا أن العتاب يولّد مع الوقت أمراضا أخرى ترتبط بالقلق والتوتر وقلة التركيز وفقدان الهدف.

ويعتقد أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية الدكتور محمود كفاوين أن الأجيال بحاجة إلى إعادة تعريف مفاهيم التربية والتثقيف والتواصل، وصولا إلى الارتقاء بالفكر والسلوك يخدم فكرة التواصل الافتراضي فننتقل إلى عالمه مسلحين بأدوات عصرية منها الحيادية وتقبل أفكار الآخرين وآرائهم بنا. ويضيف الوزير السابق “ما العتاب الإلكتروني إلا ترجمة لسلوكيات مجتمعية عشناها في الماضي ولم نزل نعيشها حاضرا، بيد أننا نستطيع تجاوز الفكرة بمجرد ترسيخ مفاهيم الحوار والمشاركة.

“التشاركية والتفاعل والتواصل مع جميع الأصدقاء الموجودين على صفحتك تحد من العتاب الإلكتروني” هكذا يبدأ أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية الدكتور محمد الدقس تعليقه على مفهوم العتب الإلكتروني الذي أمسى وفقا له ظاهرة اجتماعية تغلف فضاءات بعض المجالس سواء في فرح أو مجلس عزاء، مشددا على أن من ارتضى لنفسه دخول العالم الافتراضي عليه أن يتحمّل كل تبعاته وأمزجة الناس وألاّ يتوقّع أنها ستكون وفقا لما يريد.

ويشير إلى أن توتر البعض من عدم مشاركة آخرين لديهم ينمّ عن الضغوطات الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشونها، فيجدون في العتاب مساحة لتفريغ شحنات سلبية محاولين تصدير مشاكلهم الشخصية على هيئة لوم الآخر وعتابه.

ويدعو ومن باب تقديم الدعم الاجتماعي للأصدقاء إلى التفاعل والحوار والتشارك ليرتقي الخطاب الى ما بعد عتبة العتب واللوم، ويكون فعالا ومنتجا لرأي عام حول قضية وطنية أو إنسانية تسهم بإيجاد حلول لفئة عريضة من المواطنين.

ووفقا للدكتور الدقس تطور مصطلح العتاب إلى العتاب الإلكتروني كما أفرز مصطلحا آخر وهو “المجاملة الإلكترونية” والتي ينبغي أن تكون نتاجا مطلوبا لذاته بغية استدامة العلاقات وتحسين نوعيتها وتعزيز أواصرها، متسائلا “ما الضير في أن نكون شركاء في الإيجابية حتى على مواقع التواصل الاجتماعي ونبتعد عن اللوم والتجريح”.

21