العباسيون و"المسجديون"

الشُح على الآخرين فقد كان أشد غلاظة ولؤماً، وتولى شرحه عباس الثوري نفسه، داعياً أصحابه البخلاء إلى منع الفقراء من الشبع وملء البطون، تحاشياً للخطر، بذريعة أن الناس إن شبعت تكرشت.
الأحد 2019/04/28
شُح المسجديين ولؤمهم لا يخلو من فصاحة لسان لوحة: شادي أبوسعدة

يتوافق الباحثون في التاريخ الاجتماعي للمسلمين على أن تفشي الشُح مع اللؤم، كان من أظهر سمات العصر العباسي، ومن المفارقات أن البخلاء في ذلك العصر، حسب ما أبلغنا الجاحظ، أسسوا رابطة وكانوا يجتمعون في مسجد “ابن رغبان” في بغداد،  يتدارسون قضاياهم، ويناقشون كل ما يهمهم للدفاع عن بخلهم والاحتجاج له، بالألفاظ الحسان وبجودة الاختصار ويذمون الكرام ويحتقرون ما يسمونه ”غفلتهم في الحياة”!

كان أولئك البخلاء من وجهاء القوم والطبقة السياسية، ويتخذون من المسجد مكاناً لانعقاد اجتماعاتهم، فأطلق عليهم الناس لقب “المسجديين”. ولعل أطرف ما في الأمر أن إمامهم كان يُدعى عباس الثوري، الذي عُرف بإفراط شُحّه وبمجافاته للمحامد والمكارم، ونفوره من “كل ما أوجب الشكر، ونوّه بالذكر، وادخر الأجر” حسب وصف الجاحظ الذي قال عنه “إن ابُتلي بضيف جائع، سيكون أهون عليه أن يطعن الضيف في شرف أنبل وأتقى المسلمين، من أن يطعن في الرغيف الثاني”،  وزاد الزمخشري فوصف عباساً بكونه “الأصيل في اللؤم”!

المسجديون، بدورهم، نازعوا عباساً على زعامته وسلطته. واحد منهم يزاود عليه فيطلق على الكرام لقب “اللحميين” أي المُفرطين في تناول لحوم الماعز والدجاج. وقال لابنه على مسمع من الجميع، محذراً إياه من التشبه بالبغال غليظة الأعضاء التي كانت تسمى البراذين “اعلم يا بُني، إذا كان في الطعام شيء ظريف، ولقمة كريمة، ومضغة شهية، فإنما ذلك للشيخ المعظم، والصبي المدلل، ولست أنت واحدا منهما، فلا تنهش نهش البراذين، ولا تُدم الأكل إدامة النعاج، ولا تلُقم فمك لُقم الجِمال، إن شهوات البطن جلابة الفقر والحاجة”، ثم أردف قائلاً للفتى ولأصحابه معاً “إياكم وهذه المجازر ، فإن لها ضراوة كضراوة الخمر”!

واحدٌ ثانٍ، أحس أن صاحبه قد أجاد، فتدبر لنفسه مداخلة أعتى، من نوع الزجر الديني فقال “اعلموا أن الشبع داعية البَشم (أي التُخمة) والبشم داعية السَقم، والسَقم داعية الموت، ومن مات هذه الميتة، يُمنى بميتة لئيمة، وهو قاتل نفسه، وقاتل نفسه ألْوَمُ من قاتل غيره، وأعجبوا إن أردتم العجب”!

كان ذلك في سياق الشُح على النفس، أما الشُح على الآخرين فقد كان أشد غلاظة ولؤماً، وتولى شرحه عباس الثوري نفسه، داعياً أصحابه البخلاء إلى منع الفقراء من الشبع وملء البطون، تحاشياً للخطر، بذريعة أن الناس إن شبعت تكرشت. فممتلئ البطن يقصر عن الصلاة لصعوبة الركوع والسجود. فقد ترافق هجاء الجاحظ شُح المسجديين ولؤمهم مع مدح فصاحتهم وبيانهم، حتى ليخيل إلينا أنه اعتبر البخل واللؤم والبلاغة وحلاوة اللسان، عناصر مترابطة لا انفصام لها!

24