العالم أمام مفترق حاسم لحوكمة سوق الذكاء الاصطناعي

هيمنت حوكمة سوق الذكاء الاصطناعي على مناقشات الخبراء والمسؤولين في قمة تحتضنها باريس، باعتبار ارتباطه بتطويع القواعد التنظيمية للابتكار، وجعلها أكثر مرونة حتى تكون استثماراته أكثر توسعا في المستقبل، بما يخدم اقتصادات الدول، في ظل التحديات التي تشكل هاجسا دوليا.
باريس - يجد العالم نفسه خلال قمة باريس للذكاء الاصطناعي، التي بدأت الاثنين وتستمر يومين، في مفترق حاسم لحوكمة سوق التكنولوجيا المتقدمة، بينما يضع هذا الحدث الدولي الضخم طموحات الابتكار في مواجهة مخاوف فقدان الوظائف.
ويجتمع عدد من زعماء دول ومسؤولون تنفيذيون لشركات متخصصة في مجال التكنولوجيا لمناقشة استثمارات جديدة في الذكاء الاصطناعي والتبني الآمن لهذه التكنولوجيا في وقت تتزايد فيه المقاومة للبيروقراطية التي تقول الشركات إنها تخنق الابتكار.
وتراجع الحرص على كبح الذكاء الاصطناعي منذ القمتين السابقتين في بريطانيا وكوريا الجنوبية، اللتين ركزتا انتباه القوى العالمية على مخاطر تلك التكنولوجيا بعد إطلاق تطبيق تشات جي.بي.تي في 2022 وانتشاره بسرعة هائلة.
ومع أن شركة ديب سيك الصينية الناشئة التي صدمت الأسواق العالمية الشهر الماضي بإظهار أنها قادرة على التنافس مع الشركات العملاقة في هذا المجال مقابل جزء بسيط من الكلفة تغير قواعد اللعبة، لكنها تقيم الدليل على أهمية ضبط القطاع بشكل أفضل.
وتحدت ديب سيك الريادة الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال إطلاق نموذج مفتوح المصدر، وهو ما دفع المنافسين إلى حث خطاهم أكثر في سباق له أبعاد جيوسياسية واقتصادية.
وتوقعت شركة باين آند كومباني في تقرير نشرته في أكتوبر الماضي أن تبلغ سوق أجهزة وبرمجيات الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الثلاث المقبلة نحو تريليون دولار.
وتشير تقديرات الشركة الأميركية إلى أن هذه السوق ستنمو سنوياً بنسبة 40 إلى 50 في المئة لتتراوح قيمتها بين 780 مليار دولار و990 مليار دولار بحلول عام 2027.
وفي وقت يحطم فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب حواجز تقييد الذكاء الاصطناعي التي وضعها سلفه جو باين لتعزيز القدرة التنافسية لبلده، زاد الضغط على بروكسل لاتباع نهج أكثر تساهلا للمساعدة على إبقاء الشركات الأوروبية في سباق التكنولوجيا.
وقال سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة أوبن أي.آي في مقال رأي في صحيفة “لو موند” الفرنسية قبل القمة “إذا كنا نريد النمو والوظائف والتقدم، فعلينا السماح للمبتكرين بالابتكار وللبناة بالبناء وللمطورين بالتطوير.”
ومن أبرز إيجابيات الذكاء الاصطناعي في علاقته بالاقتصاد قدرته الفائقة على زيادة الإنتاجيّة والتقليل من التكاليف، حيث يمكن أن تستفيد الكثير من القطاعات من هذه التقنية المتقدمة التي تعد بالكثير رغم الشكوك في كونها قليلة المخاطر.
ويأمل عدد من الزعماء الأوروبيين، بمن فيهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في إضفاء مرونة على قانون الذكاء الاصطناعي الجديد بالتكتل لمساعدة الشركات الناشئة المحلية.
وقال ماكرون لصحف محلية “هناك احتمال أن يقرر البعض ألا تكون هناك قواعد، وهذا أمر خطير. ولكنْ هناك أيضا احتمال معاكس، إذا قيدت أوروبا نفسها بالكثير من القواعد.” وأضاف “ينبغي لنا ألا نخاف من الابتكار.”
وأكدت خطوات مبكرة اتخذها ترامب بشأن الذكاء الاصطناعي مدى التباين في إستراتيجيات تنظيم عمل هذه التكنولوجيا في الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي.
ووافق نواب البرلمان الأوروبي العام الماضي على قانون التكتل للذكاء الاصطناعي ليمثل أول مجموعة شاملة من القواعد التي تحكم تلك التكنولوجيا في العالم. وتضغط شركات التكنولوجيا العملاقة وبعض العواصم من أجل التساهل في تطبيقها.
ومن بين الاستثمارات التي رشحت في القمة إطلاق كارنت أي.آي، وهي شراكة بين دول مثل فرنسا وألمانيا وشركات كبرى في مجال الذكاء الاصطناعي مثل غوغل وسيلز فورس.
وستقود كارنت أي.آي، التي انطلقت باستثمار مبدئي قدره 400 مليون دولار، مشاريع للمصلحة العامة مثل توفير بيانات عالية الجودة للذكاء الاصطناعي وكذلك الاستثمار في أدوات مفتوحة المصدر.
وتهدف هذه الشراكة إلى جمع رأسمال يصل إلى 2.5 مليار دولار على مدى خمس سنوات.
وقال مارتن تيسني، مؤسس كارنت أي.آي، لرويترز إن “التركيز على المصلحة العامة ضروري لتجنب وجود جوانب سلبية للذكاء الاصطناعي مثل تلك التي ترتبط بوسائل التواصل الاجتماعي.” وأضاف “يتعين علينا أن نتعلم الدروس.”
وكان ماكرون قد كشف الأحد أن فرنسا ستعلن عن استثمارات في القطاع الخاص بنحو 109 مليارات يورو (112.49 مليار دولار) خلال القمة.
وقال كليم ديلانغ، الرئيس التنفيذي لشركة هاجينغ فيس الأميركية والتي تضم مؤسسين فرنسيين وتعد مركزا للذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر عبر الإنترنت، “حجم الاستثمار طمأننا بشكل ما إلى أنه ستكون في فرنسا مشاريع طموحة بما فيه الكفاية.”
وأكد أن شركته ستزيد استثماراتها إلى المثلين في فرنسا لتوفير المزيد من الوظائف والتركيز على التكنولوجيا بما في ذلك الروبوتات، لكنه رفض الكشف عن حجمها.
وتناقش الوفود بيانات غير ملزمة حول تبني الذكاء الاصطناعي وإدارة احتياجاته الهائلة من الطاقة وسط الاحتباس الحراري الذي يشهده الكوكب.
990
مليار دولار حجم سوق أجهزة وبرمجيات الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2027
ولا يتفق جميع المشاركين في قمة باريس على اتباع نهج أكثر تساهلا مع تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
وقال بريان تشين مدير السياسات في داتا أند سوسايتي، وهي منظمة غير ربحية وتبحث في الآثار الاجتماعية للذكاء الاصطناعي، “هناك اختلاف شاسع بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الوقت الحالي” في ما يتعلق بالقواعد التنظيمية.
وأضاف “ما يقلقني… ستكون هناك ضغوط من الولايات المتحدة وأطراف أخرى لإضعاف قانون الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي وإضعاف تلك الحماية القائمة.”
وعبرت قيادات عمالية عن قلقها من أثر الذكاء الاصطناعي على العاملين، بما في ذلك ما يحدث للموظفين الذين سيحل مكانهم الذكاء الاصطناعي مع نقلهم إلى وظائف جديدة.
وحذر المدير العام لمنظمة العمل الدولية جيلبرت هونغبو في القمة من أن أتمتة العمل بواسطة الذكاء الاصطناعي ستلحق ضررا أكبر بالنساء، ما يهدد بتزايد التفاوت بين المرأة والرجل.
وقال إن “ما يقال من أن الذكاء الاصطناعي، وخاصة التوليدي، الذي له بالفعل تأثير على عالم العمل، سيوفر وظائف جديدة ليس حلا بسيطا لاستبدال بعض المهن. وهذا أمر يجب أن يؤخذ في الاعتبار.”
ومن المتوقع أن يؤثر الذكاء الاصطناعي على ما مجموعه 2.3 في المئة من الوظائف في جميع أنحاء العالم، أي على نحو 75 مليون وظيفة، بحسب المنظمة الأممية.
وأكد هونغبو أنه “إذا أتيح للشركات استبدال العمال بالروبوتات، فمن المرجح جدا أن تفعل ذلك،” وهو ما يعكس المخاوف العديدة بشأن هذه التقنية الجديدة التي ظهرت على الساحة العالمية بقوة منذ 2022.