العائلات التونسية تواجه غلاء المعيشة بالسحب دون رصيد

1.8 مليون أسرة متداينة تعيش بالتّسبقة على الراتب.
الثلاثاء 2023/02/21
السحب دون رصيد شر لابد منه

لم تجد أغلب العائلات التونسية بدا من مواجهة نفقاتها اليومية سوى بالالتجاء إلى السحب دون رصيد، ورغم أنه يكلفها أعباء مالية إضافية إلا أنها تعتبره شرا لا بد منه. وتواجه العائلات ارتفاعا في أسعار المواد الأساسية أثر على مقدرتها الشرائية وأسقطها في فخ التداين من البنوك. ويرى خبراء الاقتصاد أن الالتجاء إلى القروض أخف وطأة من السحب السلبي على موازنة الأسر والأفراد.

تونس - تعاني الآلاف من العائلات التونسية من تدهور مقدرتها الشرائية بسبب الارتفاع القياسي للأسعار منذ اندلاع الثورة.

وقد فاقم الاحتكار والمضاربة في الأسواق والتلاعب بالأسعار وضعف الرقابة الاقتصادية للدولة وتهريب السلع اختلال ميزان العرض والطلب، ما أدى إلى غلاء المعيشة وإضعاف القدرة الشرائية للأفراد إلى درجة أن أكثر من مليون ومئتي ألف تونسي يشتكون من سوء التغذية.

ولمواجهة هذه الوضعية الصعبة والخروج من دائرة الفقر والاحتياج، اضطرت أغلب العائلات إلى التداين والعيش على التسبقة على الراتب أو السحب دون رصيد حتى تؤمن نفقاتها اليومية.

وقال عادل الخزري موظف بالقطاع الخاص وهو متزوج وأب لبنتين تدرسان بالمرحلتين الإعدادية والابتدائية، إنه مدفوع رغما عنه للسحب دون رصيد، فراتبه المتواضع لا يكفيه لسداد معلوم الإيجار وخلاص فواتير الماء والكهرباء وإعانة أمه المريضة والتكفل بمصاريف دراسة ابنتيه. وأضاف أنه لولا عمل زوجته التي تتكفل بمصاريف البيت لكان في أسوإ الأحوال.

وأشار الخزري لـ”العرب” إلى أن أغلب العائلات تضطر للسحب دون رصيد حتى لا تتداين من الأقارب أو الجيران ما يجعلها في وضعية حرجة، مؤكدا أنه اقترض من البنك عدة مرات حتى يسوي وضعيته المالية بسبب السحب دون تغطية.

وقالت نجلاء بن حسين موظفة في شركة خاصة لـ”العرب” إن راتبها الذي لا يتعدى ألف دينار (322.53 دولارا) لم يعد يسمح لها بمجابهة نفقات عائلتها نتيجة الارتفاع الجنوني لأسعار اللحوم والسمك والخضر والبنزين وغيرها، ما دفعها في أكثر من مرة إلى الالتجاء للسحب دون رصيد.

وأضافت أن رصيدها السلبي أصبح مصدر قلق لها باعتبار أنه يتم اقتطاع فوائض وأداءات بنكية عليه.

أغلب العائلات تضطر إلى السحب دون رصيد حتى لا تتداين من الأقارب أو الجيران ما يجعلها في وضعية محرجة
أغلب العائلات تضطر إلى السحب دون رصيد حتى لا تتداين من الأقارب أو الجيران ما يجعلها في وضعية محرجة

وأشارت بن حسين إلى أنها قاطعت بعض المنتوجات في العديد من المرات لغلاء أسعارها حتى أنها أصبحت تتخلى عن اللحوم الحمراء وتعوضها بالعدس وبعض البقول الأخرى التي لها نفس الفوائد الصحية.

وارتفع في الآونة الأخيرة عدد المشتكين من الرصيد السلبي ومن تراكماته وتبعاته المضرة بالوضعية الاقتصادية لبعض الأسر التي تعتبره شرا لا بد منه.

وقال الخبير الاقتصادي معز السوسي إنه من بين 2.8 مليون أسرة هناك 1.8 مليون منها متداينة تعيش بالتسبقة على الراتب، وهي تكلّف الأفراد والمؤسسات معدلا سنويا في حدود 55 مليون دينار، وأرجع ذلك إلى ارتفاع نسبة التضخم وتراجع المقدرة الشرائية.

وأشار السوسي إلى أن الاستهلاك أصبح يمثل 94 في المئة من الناتج الداخلي الخام، مؤكدا أن السحب دون رصيد ينجر عنه اقتطاع البنوك لنسبة من الفوائض والأداءات ما يزيد في إثقال كاهل الأسر.

وأشار عدد من خبراء الاقتصاد إلى أنه لمواجهة هذه الوضعية ينبغي تفعيل أساليب الاقتراض التي فيها أكثر ليونة لأن الراتب يأتي لتغطية السحب السابق ولا ينبغي السحب منه مرة أخرى حتى يتم تحقيق التوازن المالي.

الأسر التونسية تجد في قروض تحسين المساكن التي تتيحها البنوك التجارية نافذة تمويل جديدة للاستهلاك

وأكدوا أن الحل بيد المسؤولين عن الوضع الاقتصادي وأنه مع كل عملية سحب دون رصيد يغوص المواطن في الديون مع البنك.

وبهدف مكافحة المصاريف المتفاقمة التي يجابهها المواطنون نتيجة الغلاء، تجد بعض الأسر في قروض تحسين المساكن التي تتيحها البنوك التجارية نافذة تمويل جديدة للاستهلاك، معتمدة في ذلك على فواتير “وهمية” لإقناع البنوك بإقراضها.

وبسبب التضييق على قروض الاستهلاك، تلجأ عدة أسر إلى “التحايل” على البنوك بتقديم طلبات للحصول على تمويلات بهدف تحسين المساكن، فيما تصرف هذه القروض فعليا لأغراض استهلاكية، ما يتسبب في تطوّر سريع لهذا الصنف من القروض بحسب التقرير السنوي للبنك المركزي التونسي.

وتشير بيانات رسمية للبنك المركزي إلى أن التداين الإجمالي للأفراد لدى القطاع البنكي بلغ 25.2 مليار دينار سنة 2020 مقابل 24.3 مليار دينار عام 2019 أي بزيادة قدرها 5.8 في المئة مقابل 0.4 في المئة في سنة 2019.

وقال البنك المركزي إن التطور السريع شمل على حد سواء قروض الاستهلاك وقروض تهيئة المساكن والنفقات الجارية.

ونتيجة معاناة الأسر من ضغوط المعيشة تتوسع دائرة الاقتراض الأسري التي تشمل أكثر من 60 في المئة من العائلات التونسية، إذ تسدد هذه الأسر قروضا متعددة العناوين للبنوك تحتل فيها قروض الاستهلاك وتهيئة المساكن المرتبتين الثانية والثالثة على التوالي.

مع كل عملية سحب دون رصيد يغوص المواطن في الديون
مع كل عملية سحب دون رصيد يغوص المواطن في الديون

وتتزايد وضعية بعض العائلات سوءا نتيجة الاقتراض المستمر من جهة ونتيجة سوء التصرف عموما من جهة أخرى.

وبحسب وزير المالية الأسبق والخبير الاقتصادي حسين الدّيماسي فإن كل المؤشرات تظهر أن الوضع الاقتصادي ساء مقارنة بالسنوات الأولى للثورة، عندما كانت تونس تسجل معدلات نمو بين 4 و5 في المئة بين عامي 2010 و2011.

وأضاف الدّيماسي أن “جل السياسات الاقتصادية كانت خاطئة طيلة السنوات الفارطة، والشعب يدفع ضريبة تلك السياسات”.

ومثلت أزمة الديون وانهيار الدولة والأزمات الشديدة المتعلقة بتوفير المواد الأساسية وأزمة غلاء المعيشة بالإضافة إلى الارتفاع المتواصل والسريع للتضخم، المخاطر الرئيسية التي ستواجهها تونس خلال الفترة 2023 - 2025، وفقا للنسخة الثامنة عشرة من تقرير المخاطر العالمية 2023 الذي نشره المنتدى الاقتصادي العالمي.

وتم تحديد هذه المخاطر من خلال بحث أجراه المعهد العربي لرؤساء المؤسسات بصفته الشريك الرسمي للمنتدى الاقتصادي العالمي في سبتمبر 2022.

وركزت نسخة 2022 من تقرير المنتدى على انهيار الدولة وأزمة الديون والبطالة، وامتداد ركود الاقتصاد وانتشار الأنشطة غير المشروعة، باعتبارها المخاطر الرئيسية التي تواجه تونس.

وسلط تقرير سنة 2023 حول المخاطر العالمية الضوء على مجالات متعددة يكون فيها العالم عند نقطة انعطاف حرجة. كما بحث التقرير سياق التوترات الجيوسياسية والتقاء المخاطر الاجتماعية والاقتصادية وحدد المخاطر المتوقعة على الاقتصادات والمجتمعات على مدى السنتين المقبلتين.

وأشار إلى أن الاهتمام الجماعي للعالم اليوم يتجه نحو الأزمات المتعلقة بكلفة المعيشة وإمدادات الغذاء والطاقة والنمو الضعيف والمواجهة الجيوسياسية.

15