الطفل العربي ليس جوهرا واحدا إنه متنوع بثراء

محمد النابلسي: الأطفال العمانيون شغوفون بالثقافة.
الثلاثاء 2025/05/20
اللغة التي نخاطب بها الطفل اليوم في حاجة إلى التغيير

انتبهت أغلب البلدان العربية في السنوات الأخيرة إلى أهمية الثقافة الموجهة للطفل، وشهدت أغلبها إنتاجات هامة موجهة لهذه الشريحة في الأدب والفنون وغيرها، بينما ما زال المنجز يحتاج إلى دعم وتشجيع أكبر لتوسيع دائرة تأثيره ووصوله. في ما يلي حوار مع الكاتب الأردني المختص في أدب الطفل محمد النابلسي حول الثقافة الموجهة للناشئين.

خميس الصلتي

مسقط- يرى الكاتب الأردني والمختص في أدب الأطفال واليافعين محمد النابلسي أن الطفل العماني الباحث عن العلم والمعرفة، شغوف بالثقافة، يتسم بالهدوء ودائما يخفي بداخله نضجا غير عادي.

ومن خلال لقائه الأخير بمجموعة من الأطفال خلال فترة معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الـ29 التي اختتمت منذ أيام، أشار النابلسي إلى أن الأطفال في سلطنة عمان لديهم استعداد للدخول في حوار معمّق حول أفكار فلسفية بأسلوب بسيط، وأسئلة لم يسمعها من قبل في أيّ بلد آخر، ـ وفق تعبيره ـ مضيفا “وجدت أن التواصل مع الطفل العماني يحتاج إلى صبر، لكنه يثمر كثيرا من الفهم والنضج.”

أدب الطفل

محمد النابلسي الذي لديه العديد من المشاركات في مؤتمرات ثقافية متخصصة في مجال الكتب والمسرح يمتلك رصيدا أدبيا خاصا بأدب الطفل واليافعين بما فيها كتاب “تمر ومسالا” ورواية “الحكي عن أيمن وفراشاته” و”نشارة الخشب” وغيرها من الإصدارات، كما حصل على جائزة عبدالحميد شومان لأدب الأطفال (القصة الخيالية)، المركز الأول سنة 2020 عن قصة “غول المكتبة”، كما أخرج مسرحيات “الليلة الكبيرة” و”رحلة حمودي البحرية”.

◄ شغف النابلسي بالقراءة كان المحفز الرئيس للكتابة، والفكرة دائما مرتكزها حول إضافة شيء جديد، وليس تكرارا للآخر

وفي حديث خاص معه يحكي النابلسي عن شغفه بأدب الطفل وما أوقد روح البدايات والمحفزات مؤكدا ثبات واستمرارية هذا الشغف، وإسهام الخلفية الثقافية للمبدع والكاتب واستمراريته في أن يكون مبتكرا في ما يود أن يقدمه من نتاج إبداعي مغاير، يقول “بدأت علاقتي بأدب الطفل من باب شخصي جدا، شغفي بالقراءة كان المحفز الرئيس للكتابة، والفكرة دائما مرتكزها حول إضافة شيء جديد، وليس تكرارا للآخر، قد أتقاطع مع الكثير من الكتاب والأدباء في بعض الأفكار، لكن لكل منا لغته ورسالته وأسلوبه الخاص، المسألة مرتبطة بإثراء مشهد الكتابة للطفل.”

ويضيف “من هنا بدأ الحلم، أن أكون كاتبا يسهم في تشكيل ذاكرة جديدة للطفل العربي لا أن ينقل له ثقافة مستوردة فقط، ولا اجترار ثقافة مبنية على شعارات مفرغة من محتواها أو عنترية اللهجة، فالشغف لا يولد مرة واحدة، بل يتجدد كلما التقيت بطفل يروي لي ماذا فعلت به إحدى قصصي، أو معلم يستخدمها داخل الصف، أو أمّ تشكرني لأن كلمات بسيطة أثارت نقاشا عائليا عميقا، وما يؤكد هذا الثبات هو إدراكي أن هذه الرسالة أعمق من مجرد حكاية.”

يتابع النابلسي “الكتابة للطفل فعل ثقافي، وتربوي، وإنساني. وكوني عشت في بيئات مختلفة ومتعددة الثقافات – ما بين الكويت والأردن والإمارات وتجربتي الخليجية عامة – أضاف هذا إليّ أدوات لفهم الطفل العربي بتنوعه الجغرافي واللغوي والاجتماعي. ويبين أن الخلفية الثقافية للكاتب ليست رفاهية، بل ضرورة، لأنها تمنحنا وعيا نقديا يغني التجربة، ويمنحنا القدرة على تقديم محتوى لا يكرر نفسه، بل يبدع من رحم الاختلافات والبيئات.”

ويتطرق الكاتب إلى تجربته الخاصة مع أدب الطفل في سلطنة عمان، من خلال مشاركته الأخيرة في معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته الـ29، وتقديمه لعدد من الحلقات العلمية والعملية، ويشير إلى علاقة التواصل مع الطفل العماني، ورؤيته في تجارب مسرح الطفل في الوطن العربي ويكشف التقدم أو القصور فيها، ويوضح “زيارتي الأخيرة إلى سلطنة عمان تعد واحدة من أكثر التجارب ثراء في مسيرتي الأدبية. لم تكن فقط زيارة لمعرض، بل رحلة لاكتشاف الطفل العماني، بثقافته، وفضوله، وهدوئه. قدمت في تلك المشاركة حلقتين في ركن الضاد ‘فن كتابة الرسائل إلى المستقبل‘، و‘الكتابة الإبداعية لليافعين‘”.

ويتابع “التجربة جعلتني أقتنع أكثر أن الطفل العربي ليس جوهرا واحدا كما يدّعي الكثيرون، ولكنه تنوع ثري، وعلى الكاتب أن يتحرك بهذا الوعي. وأرى أن المؤسسات الثقافية العمانية تملك بنية تنظيمية رصينة، تدعم مشاركة الكتاب العرب، وهناك حاجة إلى تعزيز حضور أدب الطفل في تفاصيل المعرض، عبر جلسات حوارية أكبر، ومشاركات نقدية أكثر، وعقد بعض الملتقيات والفعاليات التي تهم صناع كتب الطفل ضمن البرنامج الثقافي للمعرض.”

ولأن سلطنة عمان تمتاز بتنوع ثقافي وحضاري يتقاطع مع الجانب الاجتماعي، ما يشكل ثروة حقيقية لإيجاد صوت أدبي مغاير، هنا يشير النابلسي إلى الكيفية التي يمكن من خلالها توظيف هذا التنوع في صياغة أدب طفل يعبر عن الواقع العماني بخصوصيته، وأن يكون قادرا على العبور نحو الفضاءات الثقافية العربية بطرق ذات نطاق شمولي.

◄ مسرح الطفل هو أحد أكثر الأدوات التربوية تأثيرا في وعي أجيال سابقة، لكنه لم يحصل على مكانته بعد

يقول الكاتب الأردني “سلطنة عمان تمتاز بثقافة متعددة الطبقات: تاريخ غني، تنوع جغرافي من الجبل إلى البحر، ولهجات محلية ذات إيقاع شعري، وعلاقات اجتماعية مبنية على المروءة والكرم والهوية المجتمعية المتماسكة. كل هذه العناصر تشكل خامات ثمينة لأدب الطفل، ولكي نعبّر بهذه الخصوصية إلى فضاء عربي أوسع، نحتاج إلى ‘الأدب المتشبع محليا، المنفتح عالميا‘. على الكاتب أن يستثمر في التفاصيل العمانية – من حكايات الجدات، إلى البيئة البحرية، إلى الأزياء والاحتفالات – ولكن أن يعيد صياغتها ضمن حبكة تصلح لأيّ قارئ عربي. هذا هو سر الأدب الذي يصدّر ثقافته دون أن يغلق أبوابه، فأدب الطفل العماني قادر على أن يكون جسرا ثقافيا، متى ما تم توظيف عناصره بخيال حر ووعي عميق.”

مسرح الطفل

ينتقل النابلسي إلى مسرح الطفل والإخراج المسرحي، والعلاقة بين النص الأدبي للطفل والمسرح الموجه له اليوم، ليوضح التحديات التي تواجه الإخراج، وخاصة الأعمال الموجهة للأطفال مقارنة بمسرح الكبار، ويقول “من وجهة نظري، مسرح الطفل هو أحد أكثر الأدوات التربوية تأثيرا في وعي أجيال سابقة، لكنه لم يحصل على مكانته بعد في ذهنية هذا الجيل من الأطفال، لأنه للأسف يدار في الغالب من باب الترفيه لا التربية. النصوص المسرحية المقدمة للأطفال في الوطن العربي غالبا ما تقع في فخ التبسيط المفرط، أو العظة المباشرة، أو التكرار. بينما في تجارب مسرحية في دول مثل تونس والمغرب، نرى اتجاهات جديدة تجمع بين الفن والتربية والمعالجة النفسية بطريقة احترافية.”

ويبين “من التحديات التي تواجه الإخراج المسرحي الموجه للأطفال: الميزانيات الضعيفة، غياب التدريب المتخصص، وأحيانا النظرة الدونية لفن الطفل من قبل بعض صناع المسرح الكبار. يعتقد البعض أن إخراج عمل مسرحي للطفل أسهل من عمل للكبار، بينما الحقيقة هي العكس تماما. الطفل لا يجامل، ولا ينتظر ذروة الأحداث، بل يحتاج إلى شد انتباهه منذ الدقيقة الأولى.”

ويرى أن العلاقة بين النص المسرحي الموجه للطفل والإخراج في حاجة إلى إعادة بناء. فالكثير من النصوص لا تكتب بروح المسرح بل بروح الكتاب المقروء، وهذا يعيق المخرج في تحويله إلى مشهد بصري حي. الكتابة للمسرح يجب أن تراعي الحركة، الصوت، الإيقاع، والحوار الداخلي والخارجي للشخصيات.

ويذهب النابلسي إلى الممكنات التي تجعل من مسرح الطفل وسيلة تربوية وفكرية تسهم في بناء وعي الأجيال في ظل الخيارات البصرية المتعددة المتاحة، والتي قد تشكل تحديا حقيقيا لدى صناع العمل المسرحي على وجه التحديد، ويؤكد بقوله “في ظل وفرة الخيارات البصرية الحديثة تبدو مهمة المسرح أكثر صعوبة، لكنها ليست مستحيلة.”

النابلسي: وجدت أن التواصل مع الطفل العماني يحتاج إلى صبر، لكنه يثمر كثيرا من الفهم والنضج

ويضيف “ما يميز المسرح هو حضوره الحي، واللقاء المباشر بين الطفل والفن، وهو ما لا تستطيع الوسائط الرقمية تحقيقه بنفس التأثير. التحدي هنا هو أن نعيد صياغة المسرح ليكون مواكبا للزمن لا مجمدا في قوالب تقليدية. أؤمن أن ممكنات مسرح الطفل التربوية تكمن في عناصر مثل التشاركية، والاندماج، والتعبير عن الذات. الطفل عندما يصبح جزءا من التجربة، تتضاعف الاستفادة. علينا أيضا أن نكسر فكرة المسرح الذي ‘يشرح‘ أو ‘يعظ‘، ونبني عوضا عنه مسرحا ‘يسائل‘ و‘يفكر‘. في هذا الإطار، من الممكن توظيف تقنيات الواقع المعزز أو المسرح التفاعلي، مع الحفاظ على البنية الإنسانية للمسرح كفن حيّ. لن ينافس المسرح الألعاب، لكنه يستطيع أن يقدم شيئا لا تقدمه الألعاب: الإنسان.”

وفي ما يتعلق بالعولمة الثقافية والطفرة التكنولوجية، وما يمكن أن يقوم به المسرح ليحافظ على هويته ويظل قريبا من واقع حياة الطفل، مرورا باللغة التي لا يزال يتلقاها الطفل اليوم، حول ما إذا كانت صالحة، أم أن الوقت قد حان لتفكيكها وإعادة بنائها بما يناسب المتغيرات الجديدة، يقول النابلسي “قد أكون من المتحفظين على مصطلح العولمة في عالم كبير ومتعدد الثقافات، فالعالم دائما كان فيه هذا التعدد، والحفاظ على التراث كجزء من الهوية، يشترط أن يكون دون الوقوع في فخ الحنين المزيف”.

ويتابع “مسرح الطفل في العالم العربي لا يجب أن يكون مسرحا يعيد تدوير التراث فقط، ويفترض أن للهوية شكلا واحدا، والعولمة هي العدو الأكبر، بل عليه أن يفسر الحاضر ويستشرف المستقبل. اللغة التي نخاطب بها الطفل اليوم في حاجة فعلا إلى إعادة تفكيك. لغة المسرح يجب أن تجيد مخاطبة الحواس الخمس، أن تبتعد عن المباشرة، وتستخدم الصورة، الإشارة، الموسيقى، والإيقاع، والمزاج الذي يحمله الطفل ضمن المحفزات البصرية والذهنية المحيطة به. يجب أن تكون اللغة ‘حية‘، لا جامدة، وأن تنتمي لعالم الطفل كما يراه لا كما نريد نحن أن يراه. نحتاج إلى كتاب مسرحيين يجيدون لغة الشاشة كما يجيدون لغة الخشبة. المسرح إن أراد البقاء، عليه أن يخاطب الطفل بلغته، لا بلغة زمن آخر.”

ويذهب النابلسي للحديث عن واقع الجوائز الأدبية كونه حاصلا على “جائزة عبدالحميد شومان لأدب الأطفال”، ودورها في دعم الأديب على المستوى الفني والأدبي، وأهميتها بالنسبة إليه وما إذا حققت الجوائز الثقافية الغاية من وجودها وتوظيفها كمنصات لتحفيز الكتابة النوعية في أدب الطفل في العالم العربي.

يقول محمد النابلسي “حصولي على جائزة عبدالحميد شومان لأدب الأطفال (القصة الخيالية) لم يكن فقط تتويجا لنص أدبي، بل اعترافا بأن الحلم الذي حملته طويلا يمكن أن يصبح واقعا. الجوائز الأدبية لها أثر مضاعف: شخصي وفني. لقد منحتني ثقة، وفتحا لأبواب النشر والتعاون، وفنيا، حمّلتني مسؤولية أن أكون في مستوى التوقعات، وأن أواصل دون أن أكرر.”

ويضيف “لكن أقول إن هناك كثيرا من الجوائز تتحول إلى لحظة احتفالية فقط، دون متابعة الأثر أو دعم نشر النصوص الفائزة أو حتى المعايير الواضحة في التقييم. من المهم أن تتحول الجوائز إلى ‘منصات بناء‘ لا مجرد ‘منصات تتويج‘. يمكن أن تقدم منحا، برامج إقامة، أو دعما لإنتاج النصوص مسرحيا أو بصريا. أؤمن بأن الكتابة للطفل عمل وطني، ثقافي، مستقبلي. هي ليست فقط حول متعة القراءة، بل هي صياغة وعي جديد، وصناعة أمل طويل المدى، تتكاتف بها كل الأطراف.”

12