الطبخ بالكلمات

لقد نسي الكثيرون حقيقة أننا نأكل لنعيش وصاروا يتبارون في إثبات نظرية أننا نوظف كل ما نعرفه من أجل أن نأكل.
الخميس 2021/12/23
هل يفكر الطباخون بعيون ضحايا طبخاتهم أم ببطونهم؟

أتذكر نزار قباني وكتابه "الرسم بالكلمات" حين أرى برامج الطبخ التي انتشرت في وسائل الاتصال الاجتماعي باعتبارها حرفة وليست مجرد هواية لسيدات يمارسن الطبخ بسبب مكوثهن في المنازل.

كانت الكلمات بالنسبة لقباني وسيلته لاختراق المناطق المحرمة فكان حاضرا في غرف النوم.

قام قباني بما لم يجرؤ شاعر عربي معاصر على القيام به. كان يمكن أن يُقرأ في المطبخ حين تتناول الفتيات النضرات إفطارهن قبل الذهاب إلى المدرسة. كان ذلك فعلا إعجازيا.

لقد سماه البعض شاعر الفتيات المراهقات في محاولة للتقليل من شأنه. ولكن ذلك كان مديحا لا بالنسبة لقباني وحده بل بالنسبة لأي شاعر غيره. فالرجل اجتاح حياتنا العادية بكلماته التي لا تمل من التلويح بعاطفتها التي لا ينفد عسلها.

اليوم تفعل الطباخات والطباخون ما كان شاعر طفولة نهد قد فعله في الأيام الخوالي.

ففي برامج الطبخ التي لا يمكن الهروب منها بسبب كثرتها لا يكتفي الطباخ بالمقادير ووصف ما يجري من تقطيع وتقشير وغلي وقلي وخلط للمواد وتسخين، بل يذهب بعيدا للحديث عن مشاعره العاطفية وأحوال المناخ وأوقات اللقاء المناسبة والموسيقى والأغاني التي يسمعها واللقاءات العائلية وأسعار العملات والهوايات والرياضة التي يمارسها وحتى الأمور الطبية.

إنه طبخ بالكلمات أيضا. تخلط الطباخة المواد فيما تتحدث عن جارتها التي تناولت معها القهوة صباح ذلك اليوم.

أما أغرب ما رأيت فتلك المرأة التي قررت أن تستضيف جدتها لتقول رأيها في ما طبخت. فإذا بالجدة تحتج وتعتبر أن كل شيء جرى أمامها لا يمت إلى عالم الطبخ بصلة وأن الطبخة فاشلة.

كانت الجدة غاضبة فيما كانت الحفيدة تضحك وكأنها تقول “انظروا إلى العقول القديمة التي لم يعد لها مكان في عصرنا”، ولقد ذكرني ذلك الحدث بالمعجبين بمحمد رمضان الذين لم يسمعوا بشخص اسمه محمد عبدالوهاب.

ستكون المسافة شاسعة بين الطبخ للعين والطبخ للمعدة وهناك العقل الذي يرسم الخطوط الفاصلة بين الطرفين. فهل يفكر الطباخون بعيون ضحايا طبخاتهم أم ببطونهم؟ ذلك سؤال لا تجيب عليه الحكايات الجانبية العجيبة التي صاروا يسلون متابعيهم بها.

هناك حكاية عن الخياطة. وهناك حكاية أخرى عن الحلاقة. لو أن واحدة من الطباخات كانت قد درست الفلسفة لزينت الفلافل بمقولات مستعارة من هيغل وهوسرل وسارتر. لذلك لم يكن مفاجئا أن  يخوض طباخ في مسائل التشريع الديني.

لقد نسي الكثيرون حقيقة أننا نأكل لنعيش وصاروا يتبارون في إثبات نظرية أننا نوظف كل ما نعرفه من أجل أن نأكل.

20