الضغوط الخارجية تثني باماكو عن بدء التفاوض مع الجماعات المسلحة

باماكو - عكست منظومة الحكم الجديدة في باماكو خلال الفترة القليلة الماضية مواقف متضاربة في ما يتعلّق بالتفاوض مع الجماعات المسلحة قد تعكس طبيعة الخلاف الحاد داخليا والضغوط الخارجية الممارسة عليها.
وفي التاسع عشر من أكتوبر أعلن وزير الشؤون الإسلامية في مالي مامادو كوني عن نية الحكومة الانتقالية فتح قنوات الحوار مع الجماعات المسلحة في البلاد، في إشارة إلى الدبلوماسي السابق إياد آغ غالي زعيم تنظيم أنصار الدين، ومامادو كوفا زعيم جماعة تحرير ماسينا، اللذين يحملان الجنسية المالية.
وقال إن الحكومة كلفت المجلس الإسلامي الأعلى بإجراء حوار مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين. لكن بعد نحو ثلاثة أيام صدر بيان من الحكومة ينفي “تفويض أي منظمة وطنية أو دولية رسميًا للقيام بمثل هذا النشاط”.
ويعكس ذلك تخبطا في تحديد الأولويات، واحتمال وجود ضغوط خارجية على باماكو من قوى دولية نافذة وعلى رأسها فرنسا للتراجع عن هذا القرار الذي تشجع عليه كل من الأمم المتحدة والجزائر.
تراجع حكومة باماكو عن التفاوض مع الحركات المسلحة يعكس رغبة في عدم تصعيد الأزمة السياسية مع باريس
والتفاوض مع الجماعات المسلحة -وخاصة آغ غالي وكوفا المتحالفين مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب- ليس بالأمر الجديد، وإن تم على مستويات محلية رغم حديث الحكومة في عدة مناسبات عزمها توسيع نطاقه، حتى قبل الإطاحة بالرئيس أبوبكر كيتا الذي أقر في فبراير 2020 وجود اتصالات من هذا النوع.
ويرى محللون أن تملص السلطات الانتقالية من قرار تكليف المجلس الإسلامي الأعلى يعكس رغبة في عدم تصعيد الأزمة السياسية مع فرنسا التي مازالت الحليف الأول لباماكو في مواجهة الجماعات الإرهابية، سواء التابعة لتنظيم داعش الإرهابي أو المناصرة لتنظيم القاعدة.
فبدْء باماكو المفاوضات مع تحالف نصرة الإسلام على الطريقة الأميركية مع حركة طالبان في أفغانستان يعني فشل فرنسا في مكافحة الإرهاب، بالتزامن مع قرار إنهائها عملية برخان وانسحابها من شمال مالي.
وهذا ما يرفضه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خاصة وأنه مقبل على انتخابات رئاسية في الربيع المقبل لم يحسم أوراقها بعد.
وأي مكاسب قد يحققها إياد غالي وكوفا في المفاوضات مع السلطات الانتقالية المالية من شأنها أن تستعمل كحجج على فشل سياسة ماكرون الخارجية خلال الحملة الانتخابية.
ويرجح المحللون أن حكومة باماكو لا تريد الذهاب إلى ما هو أبعد مما وصل إليه التصعيد مع باريس، خاصة بعد المفاوضات التي تجريها مع شركة فاغنر الروسية لاستقدام نحو ألف مرتزق من أجل ملء الفراغ الذي قد يتركه انسحاب نحو 3 آلاف عسكري فرنسي من إجمالي 5100 عنصر في عملية برخان بالساحل.
ووصل التراشق بين باريس وباماكو إلى حد استدعاء مالي السفير الفرنسي لديها للاحتجاج على تصريحات ماكرون التي انتقد فيها بحدة الحكومة المالية.
لكن في الأيام الأخيرة شهدت العلاقات بين البلدين نوعا من التهدئة، إذ التقى رئيس الوزراء المالي شوغيل كوكالا مايغا في السادس والعشرين من أكتوبر بسفير فرنسا لدى باماكو جويل ماير.
وأعرب السفير الفرنسي عن رغبة بلاده في تعزيز التعاون مع مالي، مشددا على أن فرنسا “لن تنسحب من مالي”، بينما أكد مايغا على الحاجة إلى تعزيز التعاون في مكافحة الإرهاب وانعدام الأمن والفساد والإفلات من العقاب.
ورأى المحللون أن هذا اللقاء يمثل مؤشرا على بداية هدوء العاصفة التي كادت تفجر العلاقات بين البلدين، ما يفسر تراجع باماكو عن تكليف المجلس الإسلامي الأعلى بقيادة عملية التفاوض مع الجماعات المسلحة.
وفي نفس اليوم استقبل رئيس أركان الجيش المالي العميد عمر ديارا وفدا من القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) بقيادة نائب مدير الاستراتيجية والتخطيط الجنرال مارك هوفتر، الذي شدد على أن واشنطن “ستظل شريكًا موثوقًا به للقوات المسلحة المالية”.
وتعكس هذه التحركات رغبة أميركية – فرنسية في قطع استعانة باماكو بمرتزقة فاغنر، مقابل عدم التخلي عنها في حربها ضد الإرهاب، في حين يقول محللون إن تراجع السلطات الانتقالية في مالي عن تكليف المجلس الإسلامي بالتفاوض مع قيادات الجماعات المسلحة في شمال وسط البلاد يعكس تخوّفها من أن تحرّك باريس بعض الملفات الحساسة، وأخطرها تقسيم البلاد وتشكيل دولة للطوارق في الشمال.
وتحدث رئيس الحكومة المالي عن هذا الأمر في حوار أجراه مع الإذاعة الجزائرية (رسمية) قائلا إن “هناك مناطق في شمال مالي تمنع فرنسا دخول جيش البلاد إليها، ما خلق لنا دولة داخل دولة”.
وأخطر من ذلك، كشف مايغا أن الأمر “وصل إلى حد أن رئيس فرنسا السابق نيكولا ساركوزي (2007 - 2012) وعد متمردين في الشمال بمنحهم دولة مستقلة”.
واتهم مايغا فرنسا بعدم احترام الاتفاق معها في 2013، الذي ينص على تقديم دعم جوي ومخابراتي للجيش المالي، “وقامت باريس بنشر 4 آلاف عسكري دون استشارة باماكو”.
الحكومة كلفت المجلس الإسلامي الأعلى بإجراء حوار مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين لكن بعد نحو ثلاثة أيام صدر بيان من الحكومة ينفي ذلك
وللتأكيد على فشل التدخل العسكري الفرنسي أوضح مايغا أن الهدف كان “القضاء على الإرهاب، لكنه انتشر في 80 في المئة من بلادنا بعد أن كان محصورا في الشمال”.
وتابع أن “عودة وحدة مالي لم تتحقق لأن جماعات متمردة مسلحة في مالي تستعرض إلى اليوم بأسلحة ثقيلة أمام القوات الدولية والفرنسية”.
وسعت باماكو لخيارات بديلة كي تتلافى سيناريو التقسيم، وذلك بطلب الدعم العسكري الروسي عبر شركة فاغنر والسعي لفتح قنوات اتصال مع الجماعات المسلحة المالية المتحالفة مع القاعدة من أجل تحييدها في حال اضطر الجيش المالي إلى التدخل في الشمال لمنع انقسام البلاد.
كما كثفت باماكو اتصالاتها مع الجزائر، التي ترعى الحوار الدولي مع المتمردين الطوارق والأزواد، من أجل تفادي أي سيناريو لفصل الشمال عن الجنوب؛ حيث استقبل وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة في الثاني والعشرين من أكتوبر وزير المصالحة المالي العقيد إسماعيل واغي ومسؤولين عن حركات الطوارق والأزواد الموقعة على اتفاق السلم والمصالحة الموقع في 2015، لمنع انهياره تحت أي ضغوط داخلية أو خارجية.
كما استقبلت الجزائر محمود ديكو رئيس المجلس الإسلامي الأعلى السابق في مالي (2018 - 2019)، الذي قاد المظاهرات ضد نظام كيتا، لإطلاعه على تجربتها في المصالحة الوطنية.
إلا أن باريس قد لا تحبذ أن يلعب ديكو أو المجلس الإسلامي الأعلى أي دور في المصالحة مع الجماعات المسلحة، خاصة أنه قاد مظاهرات نددت بوجود قواتها في البلاد.
وستحاول باماكو إعادة ضبط علاقاتها مع باريس التي ستكون مضطرة إلى تعديل سياستها في مالي لتفادي فقدان نفوذها لصالح روسيا والجزائر.