الضجيج الإلكتروني الافتراضي كسل يتنكر في هيئة نشاط سياسي

قريبا جدا من الحياة الواقعية، يوجد ذلك العالم الأزرق الذي سلب الأشخاص التواصل والتفاعل الحقيقيين، وتحول إلى واقع مواز يشجع على تواصل أقل مع الناس وتواصل أكبر مع الشاشة، وفي الشاشة كل شيء أبرد، أقل حميمية، وأقل حقيقية.
الأربعاء 2016/03/23
وحدنا معا، هذا هو الاسم الحقيقي للفيسبوك

يعترف كُتَّاب عرب بأن فيسبوك كان له تأثير إيجابي على طريقة تفكيرهم وأسلوبهم في الكتابة، حيث تجاوز دوره كمجال للتواصل الاجتماعي وشمل أيضاً التواصل الفكري والتعاطي السياسي والتفاعل الثقافي.

ويعتبر الخبراء أن لجوء الأفراد إلى فيسبوك قد يعود إلى أسباب ذاتية تتعلق بأزمات نفسية شخصية يعيشونها في مرحلة ما من مراحل حياتهم. وقد يمنح الأشخاص الذين يشعرون بالهامشية والعزلة وانعدام القيمة بأن يستعيدوا الإحساس بتلك القيمة والجدوى والمعنى والفاعلية في الحياة، إما بتقديم أطروحات وإسهامات فكرية وسياسية وأدبية فعلاً تستحق الإعجاب على فيسبوك وإما بمجرد التواجد والانخراط في السجال والجدل والنقاش العام حتى لو كان ذلك بصورة سلبية صراعية للتنفيس عن الاحتقان وتفريغ الأزمات الداخلية التي يعيشها الفرد.

ويرى الباحث اللبناني طوني صغبيني في كتابه “العيش كصورة: كيف يجعلنا فيسبوك أكثر تعاسة”، “اليوم لم يعد من الضروري أن نقرأ وأن نُكوِّن آراء حقيقية تجاه القضايا المهمة وأن ننشط على أرض الواقع لكي نوصف بأننا ‘ناشطون’، يكفي أن ننقر بضعة أزرار على فيسبوك لكي نبدو كأن كل هاجسنا في الحياة هو إنقاذ العالم. على فيسبوك، الجميع ناشط لكن قلة قليلة هي من تحارب فعلياً على أرض الواقع.

ويفرض هذا الواقع سؤالا مهما: هل يغني الافتراض عن الواقع؟ وهل تسد “رموز فيسبوك” مكان الاتصال الإنساني الفعلي بكل ما فيه من مودة ودفء وحميمية؟

يقول صغبيني، الباحث في الشؤون الإنسانية والناشط المدني والبيئي، “كلما استبدلنا حزنا برمز، وغمزة برمز، وقبلة برمز نقتل الكثير من ضحكتنا وحزننا وعاطفتنا وقبلتنا”، ذلك أن الخبز والملح والمشاركات الحياتية بين الناس، بحسب المؤلف، هي التي تصنع الصداقات، لا اللايكات والتعليقات.

الفضاء الاجتماعي تحول إلى مستنقع للكراهية والانفعالات الساذجة والانخراط في سلبية الصراع السياسي

ويوضح الكاتب الذي يصف نفسه بأنه “حالم بإمبراطورية من زيتون وحرية”، “وحدنا معاً، هذا هو الاسم الحقيقي للفيسبوك، وهو ما يدفعني لمغادرته”.

كان فيسبوك لاعبا مهما في التحولات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية. وحظي باهتمام أوساط الناشطين السياسيين والاجتماعيين على اعتبار أنه يُسهّل عملية التعبئة والتأثير ويُوسّع مجالات الدعم الشعبي لقضاياهم، وهذا يحمل الكثير من الصحّة، لكنهم نادراً ما يناقشون أو ينتبهون لتأثيره على المدى البعيد على الثقافة السياسية بشكل عام.

يكمن هذا التأثير في استبدال النشاط السياسي الحقيقي الذي يحقّق نتائج على أرض الواقع بضجيج إلكتروني افتراضي لا يحقّق الكثير. ويمكن تلخيص هذا التحوّل بالكسل الذي يتنكّر على أنه نشاط سياسي، وهذا ما يشجّع عليه فيسبوك.

وهذا صحيح إلى درجة كبيرة لأن “المواقف الافتراضية” مجانية ومعنوية فقط ولا يحتاج أصحابها إلى دفع ثمنها على الأرض في صورة جهد أو مال أو وقت أو أي شكل من أشكال التضحية، وما من مسؤوليات حقيقية تترتب عليها.

وفي ظل الانفعال الطائفي والهوياتي الذي تعيشه المجتمعات العربية بات تسجيل المواقف ضرورة للدفاع عن الذات ولتأكيد الوجود وإثبات الانتماء للعقيدة. ونتيجة لذلك تحول هذا الفضاء الاجتماعي الذي كان يفترض أن يكون إطاراً للتفاعل والفاعلية، إلى مستنقع للكراهية والتنافر، والانفعالات الساذجة والافتعال السياسي، والانخراط في سلبية الصراع السياسي الافتراضي، وأنتج حالة من التراخي في التعامل مع الأزمات العامة ورخاوة في التزام المواقف الأخلاقية العملية التي تخدم الصالح العام، فصار الوجود المكثف في فيسبوك مُعبِّراً عن بطالة سياسية مقنعة يعيشها الأفراد والقوى الاجتماعية.

الإدمان الإلكتروني أصبح آفة للأشخاص غير المؤهلين نفسياً وذهنياً واجتماعياً لعدم الانجرار وراء إملاءات مواقع التواصل الاجتماعي وإكراهاتها

وأصبح الإدمان الإلكتروني آفة للأشخاص غير المؤهلين نفسياً وذهنياً واجتماعياً لعدم الانجرار وراء إملاءات مواقع التواصل الاجتماعي وإكراهاتها واستهواءاتها. فـ”فيسبوك يعطي المدمن الإلكتروني صوتاً أعلى من أي شخص آخر على الموقع، ويضيف “فيسبوك قد يساعد أحياناً على صنع ثورة ولكنه أيضاً قد يجهضها حتى قبل أن تولد”.

يستهلك فيسبوك الوقت كمّا ونوعا، فهو من ناحية يستدرج لقضاء الساعات الطويلة في ملاحقة المنشورات الفيسبوكية ومن ناحية ثانية فإن ما ينشره الأصدقاء من موضوعات يحدد أجندة تفكير المستخدم واهتماماته الذهنية والعاطفية لبقية اليوم، وتتضرر ذواتنا وحياتنا وإنتاجيتنا إذ كنا نقوم بتصفح فيسبوك خلال الوقت المخصص للعمل أو الدراسة، إذ نكون عملياً، وفقاً للكتاب، “نخسر ساعات عدّة من وقتنا المُنتِج لكي نقرأ ماذا تناولت صديقتنا نادين على العشاء بالأمس أو لكي نشارك في نقاش سياسي لا يصغي فيه أحد لآخر”.

ويشدد صغبيني على مسألة الوقت باعتباره موردا نادرا ومحدودا ومهما. يقول “إن الموقع يستولي عادةً على الوقت الأكثر صفاء في يومنا (الصباح) ويثقلنا بشعور بالخمول والتعب يلازمنا كل النهار”، لكن المغتربين يجدون في فيسبوك ضالتهم في التواصل مع بلدانهم الأصلية وثقافتها وأزماتها، بيد أن هذا الحنين إلى الوطن يعكس أزمة أخرى هي ضعف الاندماج في المجتمعات الجديدة، فيبقى العربي معلقاً بين الوطن الأم ووطن المهجر.

ويرى أن فيسبوك يمنحنا السعة لكنه يسلبنا العمق. يعطينا الأصدقاء ويأخذ منا الصدق والصداقة. نحصد الإعجاب ونفقد الإنجاز. إنه يجعلنا أكثر هشاشة وأقل رصانة. وينقل صغبيني عن الكاتبة الأميركية آلرين سبينسلي وهي تفسر أسباب مغادرتها للفيسبوك في مقال لها، “عالمي هو بالفعل أصغر الآن، لكن كل شيء فيه أكثر عمقاً”.

ويعلق بأنها “محقة إذ أن إعلان التحولات العائلية والمهنية المهمة على فيسبوك يتم عبر جملة واحدة باردة بدل أن تكون مناسبة مفعمة بالعناق والتهاني مع الأحبة والأصدقاء. مواقع التواصل الإجتماعي تشجع على تواصل أقل مع الناس وتواصل أكبر مع الشاشة، وفي الشاشة كل شيء أبرد، أقل حميمية، وأقل حقيقية”.

ويتساءل المؤلف “لا نعلم كيف سيؤثر فيسبوك على الجيل الذي لم يعرف كيف تكون العلاقات الإنسانية والصداقات والحب قبل فيسبوك، الذي نشأ ليعتقد أن بدء صداقة هو بسهولة النقر على زرّ، وإنهاءها هو بسهولة النقر على زرّ آخر.

18