الصورة المحزنة للكتاب تنجب صورة مشوهة للكتابة

لا أعتقد أن الروائي يحتاج إلى كارثة إنسانية ليكتشف ما يشبه البديهيات، لأن الكتابة نوعا ما هي رمز لصداقة الروائي الخاصة مع الحياة، لأنه أكثر الناس إلماما بكل تفاصيلها وتناقضاتها ووجوهها وشواهدها ومن دونها يفقد نفسه ويخسر طعم إنسانيته.
عايشت واقع الدمار شخصيا وتعرفت على أشياء بالواقع الحي تذوقت طعمها الحقيقي أكثر مما هي توصف في الكتب، شممت رائحة الخراب والدم الجاف والتراب المصاب بالعطش والبيوت الفارغة بالحيطان المحروقة ودون أبواب وناس وعرائش عنب. يومها أدركت أن لا قيمة لما يُكتب إن كان خارج العالم، فإما أن يكون النص جزءا من العالم وإلا سيتحول إلى إحساس مفترض ويتحول الروائي إلى مثقف “غيتو”، يعيش مع نفسه تحت مبدأ “عدم التدخل في شؤون الآخرين”. بهذا يكون قد رفع الراية البيضاء ليلتحق بطابور الخوف أو ينزوي في خلوته ويكتب كل شيء ولكن خارج المضمون.
لقد شاهدت بأم العين والروح لحظة الدم تلك وهي تتسع كلما ضاقت رقعة الوعي، ويتحول الأدب إلى وظيفة رسمية أو مجرد مهنة في قاعة الدرس والترقي في المناصب الوهمية، وزمن الاستبداد يبدأ عندما يلتزم الصمت، حين يرتهن تعريف المواطن “الصالح” تحت استبداد سياسي يحبذه خارج إنسانيته ويصبح مجرد “شيء”، أي أن يكون بلا عقل. وهناك شكل أكثر ترويعا أن يكون بلا رأس. كلها تشكل تمهيدا لصناعة أوطان بلا رأس وبلا مواطن وبلا إنسان.
◄ التحدي بمواصلة السرد الصادق والعميق والبعيد المدى، كقوة ناعمة ولكنها بالغة التأثير لفعل الحرية والتقدم وصيانة إنسانية الإنسان وهويته
تبدأ خسارة المعركة أمام الجهل في الحالة الأولى عندما يصادر فيها السياسي دور ومكانة الفعل الإبداعي، ويحوله إلى ملحق أو ذنب للسلطة، أو باستخدام الإغراء أو الخوف لتحويل العمل الأدبي كمادة للتحريض السياسي. قدرة الروائي على أن يحافظ على الوظيفة الإنسانية للأدب في إطار متكامل قد يجعله الأكثر فعلا وتأثيرا في تشكيل وعي الجماهير القادر على مواجهة التحديات.
والخسارة في الحالة الثانية أشد مضاضة في زمن الاختلاط المشوش بالجهل والجاهلية تكون فيه القراءة بدعة، والكتابة ضلالا والإبداعُ زندقةً، صورتها المحزنة تبدأ من وأد الكلمات إلى وأد الأفكار فوأد الأوطان والتي فيها يوصف الكتّاب بـ”الملاحدة وأولاد الحرام”. ففي هذا الزمن كيف يمكن التوليف بين بشاعة القتل والجمال الإنساني؟ كيف نجمع بين لغة الحرية وفنون الفتنة؟ وكلها تتجول حذرا بين القذيفة والقذيفة، أو كقاتل تائه بين جثتين.
الإبداع أن تلتقط غاية لحظة الدم التي تهدف إلى غسل الذاكرة الجمعية وتكسير شواهدها، منهم أمثلة وأسماء غُيبت بالاستشهاد أو الاعتقال أو الإبعاد أو الإصابات أو فرض الإقامة أو الفرار إلى المنافي الجديدة.
◄ لا قيمة لما يُكتب إن كان خارج العالم، فإما أن يكون النص جزءا من العالم وإلا سيتحول إلى إحساس مفترض ويتحول الروائي إلى مثقف "غيتو"
الإبداع يعني أنك لست حرا أن تستقيل من الواقع، الكتابة في لحظات الحرب القاسية هي أشبه بعدسة تسجل أحاسيس الناس وتلتقط نبضهم وتلمس قضاياهم والتحولات التي تنعكس على قيمهم وأحوالهم. الروائي من يقوى على تسخير أدواته المعرفية لوعي الحدث والتعبير عنه، هذا ما يجعله أدبا خالدا.
عندما يجف الحبر تلاحظ بكل حواسك كيف يرتفع مؤشر الخطر لتكتشف أنه كلما كان الحلم عرضة للانفجار تزداد تشبثا بإنسانيتك، وتكون لحظة الحبر عبارة عن حالة مواجهة لجروح الواقع بدواء الخيال، أي “تحويل الدم إلى حبر” بتعبير ت.س.إليوت.
التحدي بمواصلة السرد الصادق والعميق والبعيد المدى، كقوة ناعمة ولكنها بالغة التأثير لفعل الحرية والتقدم وصيانة إنسانية الإنسان وهويته وقيمه الجمالية.
لحظة الحبر تفرضها إنسانية المنتمي ضد الاستلاب من جهة، وأدوات البشاعة وفظائعها الوحشية السوداء من جهة ثانية. الكتابة ستكون ترفا إن لم تكن حماية للذاكرة الشعبية والتاريخية التي تتعرض للحرق كما المكاتب والمتاحف والمراكز الأثرية والثقافية. لا تزال هناك أسئلة وكلمات وأسماء وأبطال روايات عظيمة تتردد حتى الآن وإلى أجل غير مسمى، عظمتها تكمن في أنها ساهمت في صناعة وفي تكوين الضمير الجمعي والهوية الثقافية.
• ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية