الصناديق السيادية الخليجية تتحول إلى قبلة لصُناع الصفقات

يرصد محللون نهما كبيرا للصناديق السيادية الخليجية بالتوسع في تمويل البعض من أكبر الاستثمارات وصفقات الاستحواذ وحزم الإنقاذ، وهي لا تبدي أي علامات على التراجع متسلحة بمبدأ اقتناص الفرص المربحة والأكثر مرونة وفي الوقت ذاته الأقل تعقيدا.
نيويورك - تحولت السيولة الوفيرة لدى صناديق الثروة الخليجية إلى محط أنظار المستثمرين الأجانب، مثل كريدي سويس ومؤسس منصة أف.تي.إكس سام بانكمان فريد، فضلا عن أغنى رجال آسيا مع إغلاق العديد من أسواق الديون أبوابها العام الماضي.
وعززت طفرة أسعار الطاقة احتياطات صناديق السعودية وأبوظبي وقطر لتبلغ أكثر من 3.5 تريليون دولار، وهو رقم يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة.
وتتجلى طموحات الصناديق مبكرا هذا العام، إذ أكد أبوظبي الأول، أحد أكبر بنوك الشرق الأوسط، والتابع لشركة مبادلة للاستثمار أنه يستشكف إمكانية شراء بنك ستاندرد تشارترد، العملاق المالي البريطاني، الذي تزيد قيمته على 20 مليار دولار.
وبعد موجة صفقات استحواذ بالمنطقة أصبح البنك الأهلي، أكبر بنك سعودي والمملوك جزئيا لصندوق الثروة، أكبر مساهم في كريدي سويس، وفي خضم ذلك زار بانكمان فريد الإمارات ضمن آخر جهوده لتأمين سيولة قبل الانهيار الصادم لبورصته للعملات المشفرة.
وبالتزامن مع ذلك تَقرب الملياردير الهندي غوتام أداني أغنى شخص في آسيا من تلك الصناديق في مسعى لتقليل مديونية إمبراطوريته وزيادة رأسمالها بما يناهز 5 مليارات دولار.
وكشفت مصادر مطلعة لوكالة بلومبرغ أن الملياردير الهندي موكيش أمباني يتواصل أيضا مع تلك الصناديق باحثا عن استثمار في أعماله بالطاقة.
وبحسب شركة غلوبال أس.دبليو.أف، فقد استثمرت الصناديق الخليجية العام الماضي نحو 89 مليار دولار، أي ضعف ما أنفقته العام السابق. وذهب نصيب الأسد منه إلى أوروبا وأميركا الشمالية باستثمارات قدرها 51.6 مليار دولار.
لكن تظل كميات هائلة من السيولة لديها غير مستغَلة، وتؤكد مصادر أن المسؤولين في الثروة السعودي، البالغة أصوله 620 مليار دولار، يتعرضون لضغوط لتوظيف السيولة، بينما يسرّع فيه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان جهود فطم بلده عن النفط.
أما جهاز قطر للاستثمار بأصوله البالغة 450 مليار دولار فيبحث عن المزيد من الصفقات الخارجية بعد بطولة كأس العالم التي نظمتها الدوحة الشهر الماضي.
واشتهر المستثمرون الخليجيون باقتناص الأصول المميّزة مثل نادي كرة القدم مانشستر سيتي وعقارات مانهاتن ومتجر هارودز.
لكن صُناع الصفقات يقولون إن استثماراتهم هذه المرة لها جانب إستراتيجي أكبر، مستخدمين ثرواتهم لاقتناص دور أكبر على الساحة العالمية، ولتنويع اقتصاداتهم، ولزيادة نفوذهم الجيوسياسي.
وقال آندي كارينز مدير الأسواق الرأسمالية في الشرق الأوسط وأفريقيا لدى هوليهان لوكي “تجلس الصناديق السيادية في المنطقة بلا منازع على رأس الطاولة وتُعرض عليها أولا جميع الصفقات العالمية”.
الصناديق الخليجية استثمرت نحو 89 مليار دولار العام الماضي، أي ضعف ما أنفقته العام السابق
وأوضح أن ذلك يتماشى مع أولويات منطقة “تعبر وتؤكد طموحاتها الاقتصادية والسياسية على الساحة العالمية” بشكل متزايد.
وعززت الصناديق احتياطاتها النقدية مع ارتفاع أسعار النفط بعد حرب أوكرانيا، وحصدت السعودية مليار دولار يوميا من بيع الخام، ونظرا للتحرر من القيود المعتادة على شركات الاستثمار الأخرى، فمن المتوقع أن تواصل الاستثمار حتى لو تراجعت أسعار النفط.
وفي ذلك تناقض صارخ عن الوضع في الولايات المتحدة وأوروبا والصين، حيث هبط التمويل ونشاط الصفقات استسلاما لأسعار الفائدة المرتفعة ومخاوف الركود.
وقال راجيش سينغ رئيس قسم الاندماج والاستحواذ بالشرق الأوسط وأفريقيا لدى ستاندرد تشارترد، إن صناديق الثروة في المنطقة تُعيد تشكيل إستراتيجياتها مع التركيز على “دعم اقتصاداتها المحلية أو تحقيق الثروة للأجيال القادمة”.
وبدافع من تعطشها للسيولة، تنقل الشركات والبنوك من حول العالم طواقم عمل كبيرة لمدن مثل الرياض وأبوظبي لعرض الأفكار الاستثمارية، لكن وسط المستويات الكبيرة من النشاط، يضطر بعض التنفيذيين إلى الانتظار لأيام لمقابلة المسؤولين المناسبين.
وحتى عندما يصلون إلى المكان المناسب يجد صناع الصفقات أنفسهم وسط بيئة صعبة، حيث أكبر القرارات يتطلب في العادة موافقة من أصحاب السلطة، وهو ما قد يمزج بين الكيانات الهادفة إلى الاستثمار فقط والتداخلات السياسية، حسبما قال أشخاص آخرون.
ويؤكد مستشارون وتنفيذيون مقربون من المسؤولين في الصناديق الخليجية أنهم أكثر انتقائية، وأصبح الحصول على موافقتهم أصعب الآن. كما باتوا أسرع في رفض الصفقات التي لا تتناسب مع أهداف بناء الاقتصاد أو توليد العائدات.
وقال وليد المهيري نائب الرئيس التنفيذي لمبادلة لبلومبرغ “نحن مستثمرون طويلو الأجل نشطون ولسنا خاملين، وهذا يعني أننا لدينا القدرة على التحكم في موعد استثمارنا وتوقيت تخارجنا”.
وأضاف “عبر التمثيل في مجلس الإدارة لدينا سيطرة أيضا على متى نكون صوتا للتغيير، وهذا يعني أنه في كثير من الأحوال نحصل على قيمة مضافة مرتفعة”.
واستنادا على ذلك، فإن الجميع لا يفوزون باستثمار كبير، بدليل أن مصادر مطلعة أكدت أن الصناديق رفضت طلب بانكمان فريد مع بدء التساؤل حول الوضع المالي لشركاته في مجال العملات المشفرة.
وقال مصرفيّ “انهارت صفقته البالغة 5 مليارات دولار مباشرة قبل أن تحصل على الموافقة النهائية وإنّ كبار المديرين التنفيذيين في الصناديق قد يفضلون الحذر في ما يتعلق بالاستثمارات الكبيرة في اللحظات الأخيرة”.
وكذلك قيل إن بنك أبوظبي الأول كان قد درس إمكانية شراء ستاندرد تشارترد لأكثر من ستة أشهُر ثم قال يناير الحالي إنه لم يعُد مهتما. وقال أشخاص مطلعون إن “الصفقات بهذا الحجم كانت لتواجه عقبات هائلة بالنظر إلى مدى تعقيدها”.
الصناديق السيادية الخليجية ليست محصّنة ضد تقلبات الأسواق العالمية
ولا تظهر تعقيدات إبرام الصفقات بالشرق الأوسط في أي مكان أكثر من المقر الرئيسي لصندوق الثروة السعودي. وتقول مصادر إن محافظه ياسر الرميان يتولى دور رجل الدولة الوطني.
ويمتلك الرميان، الذي انتقل من إدارة بنك استثماري محلي إلى الإشراف على أحد الصناديق السيادية الأسرع نموا، مقاعد بمجالس إدارة الشركات العالمية العملاقة مثل أوبر تكنولوجيز وريلاينس إندستريز المملوكة لأمباني.
وبهدف إدارة أصول بقيمة تريليون دولار بحلول 2025، يلتزم المسؤولون التنفيذيون في صندوق إبرام صفقات تتناسب مع إستراتيجية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، التي تسعى للتوسع في قطاعات جديدة بالتمويل والاستحواذ.
وقال مصدر، لم تذكر بلومبرغ هويته، إن “نهج الصندوق لا يتغير وفق تحركات أسعار النفط، بل تحدده إستراتيجيتنا الخمسية الأحدث المعلنة في يناير 2021”.
وأوضح أن الصندوق لديه عملية استثمار قوية تكافئ عمليات مدراء الأصول العالميين، وأن كل عضو في مجلس الإدارة يلعب دورا مهما في أثناء المناقشات.
ويهدف استثمار البنك الأهلي في كريدي سويس إلى مساعدة السعودية على توسيع خبرتها في إدارة ثرواتها والخدمات المصرفية الاستثمارية، وفي نفس الوقت تطوير القطاع المصرفي المحلي.
وتتلاءم استثمارات صندوق الثروة في شركات صناعة السيارات الأجنبية مثل أستون مارتن وماكلارين مع خطط الرياض لأن تصبح مركزا للتصنيع.
كما أن شراء حصص في سلاسل الفنادق، مثل مجموعة آمان، يعتبر استكمالا لطموح السعودية في أن يصبح واحدا من أكثر البلدان التي يقصدها الزائرون بحلول 2030.
وعلاوة على ذلك، شارك الصندوق في تحالف من شركات ملكية خاصة للاستحواذ على حصة في فانتدج تاورز، وحدة أبراج الهاتف المحمول التابعة لمجموعة فودافون، ليصبح بذلك مستثمرا في قطاع البنية التحتية الأوروبية الرئيسية.
وتعهد الصندوق أيضا باستثمار أكثر من 200 مليار دولار في الاقتصاد السعودي بحلول 2025، وهو هدف طموح حدده ولي العهد ويتطلب إنفاق 40 مليار دولار في المتوسط سنويا.
لكن مصادر قالت إن المسؤولين التنفيذيين لم يحققوا المستهدف في 2022 للعام الثاني على التوالي، فيما أكد متحدث باسم الصندوق أنّه تم “رفع استثماراته المحلية إلى مستويات قياسية”.
وتؤثر الضغوط لتوظيف السيولة في دور الصندوق لتطوير الاقتصاد السعودي أحيانا. وفي إحدى الحالات، رفض الأمير محمد صفقة استثمار، كونها لا تضيف قيمة للبلاد، ويمكن أن يمولها مستثمرون آخرون.
وبالمثل، كان الصندوق مترددا بخصوص ضخ استثمارات في استوديوهات هوليوود، رغم تواصل العديد منها معه، بسبب المنافسة المتزايدة من خدمات البث.
وأصبحت بعض الحكومات الأوروبية أكثر حذرا في علاقاتها التجارية مع الصين، ما منح الشرق الأوسط فرصا متزايدة.
وبعد زيارة المستشار الألماني أولاف شولتز لقطر في سبتمبر 2022 أصبح جهاز قطر للاستثمار داعما مهما لشركة المرافق الألمانية آر.دبليو.إي باستثمار قدره 2.4 مليار يورو.
وقال ممثل عن الجهاز لبلومبرغ إن “إستراتيجية الصندوق تركز على القيمة طويلة الأجل عبر مجموعة متنوعة من القطاعات مثل الصناعات المدعومة بالتكنولوجيا والطاقة المتجددة ومنخفضة الكربون والرعاية الصحية”.
شراء حصص في سلاسل الفنادق، مثل مجموعة آمان، يعتبر استكمالا لطموح السعودية في أن يصبح واحدا من أكثر البلدان التي يقصدها الزائرون بحلول 2030
وعلاوة على ذلك، تعهدت مبادلة خلال 2021 باستثمار 10 مليارات جنيه إسترليني في المملكة المتحدة بمجالات انتقال الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا، في صفقة استهدفت إظهار دعم الإمارات لبريطانيا بعد بريكست.
ومع ذلك، ثمة تعقيدات سياسية دولية، وقالت مصادر إنه “في الأسابيع الأولى بعد اندلاع الحرب في شرق أوروبا تعرضت صناديق سيادية خليجية، بما في ذلك مبادلة، للتدقيق من حكومات غربية بخصوص علاقاتها الاستثمارية مع الشركات المرتبطة بروسيا”.
وبينما لم تفرض الإمارات عقوبات على روسيا، قالت مبادلة في مارس الماضي إنها “ستوقف مؤقتا ضخ الاستثمارات في روسيا”.
ولم يعلّق ممثل عن مبادلة على ما إذا كانت الاستثمارات في الشركات الروسية قد خضعت للتدقيق أم لا، وقال إنه “لا توجد مستجدات تخص إستراتيجيتها تجاه روسيا منذ إعلان وقف الاستثمارات”.
ورغم النشاط المزدحم للصفقات الجاري العمل عليها، فإن الصناديق السيادية الخليجية ليست محصّنة ضد تقلبات الأسواق العالمية.
ويقول ماسيميليانو كاستيلي رئيس الإستراتيجية بفريق الأسواق السيادية العالمية لدى يو.بي.أس آسيت مانجمنت، إنه كان من المتوقع بنهاية 2022 أن تمثل الكيانات الإقليمية نحو نصف خسائر صناديق الثروة العالمية، البالغة 1.7 تريليون دولار من استثماراتها بالأسهم وأدوات الدخل الثابت.
المستثمرون الخليجيون اشتهروا باقتناص الأصول المميّزة مثل نادي كرة القدم مانشستر سيتي وعقارات مانهاتن ومتجر هارودز
كما واجهت الاستثمارات طويلة الأجل الأخرى بعض التحديات. ويمتلك الثروة السعودي استثمارات كبيرة بقيمة 45 مليار دولار في صندوق رؤية التابع لمجموعة سوفت بنك، الذي يُرجَّح تسجيله خسائر قياسية في 2022.
وجرى إبرام هذه الصفقة خلال اجتماع قصير بين ماسايوشي صن مؤسس سوفت بنك والأمير محمد بن سلمان، ولاحقا قال صن إن “الأمر استغرق 45 دقيقة للحصول على موافقة الجانب السعودي بالاستثمار في صندوق رؤية”.
ولا يزال الصندوق ينظر بإيجابية إلى هذا الاستثمار، حيث كان صن سببا في تعارف مسؤولي الصندوق السيادي على مسؤول تنفيذي واحد كبير على الأقل في شركة أجنبية قد تبني موقعا للتصنيع في السعودية.
ويسود شعور متزايد بالإرهاق بين المسؤولين بالصناديق السيادية الخليجية، بعد تلقيهم فيضا من طلبات الاستثمار العام الماضي، وفق مصرفيين يعملون مع تلك المؤسسات.
ومن غير المرجح أن تقلل هذه المخاوف نشاط الصناديق تجاه الاستثمار لفترة طويلة. وفي الأشهر الماضية انخرطت الصناديق في صفقات تشمل كل شيء، من دوري كرة قدم جديد يجري تدشينه في البرازيل، إلى سلسلة من أفضل أندية الدوري الإنجليزي الممتاز.
وقالت كارين يونغ، باحثة أولى في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا إن “القدرة على توظيف رأس المال بغرض تحقيق عائد على الاستثمار وإنجاز أهداف سياسية هي بمثابة رفاهية توضح حجم ونطاق هذا التحوّل في أصول صناديق الثروة الخليجية”.