الصراع بين النقابات والحكومة يستنزف المنظومة التعليمية في تونس

تونس - تتخذ أزمة حجب الأعداد لامتحانات المرحلتين الابتدائية والثانوية في تونس منعطفا جديدا، وسط تلويح وزارة التربية باتخاذ إجراءات في حق المدرسين المنخرطين في عملية الحجب. وجرى حجب أعداد الثلاثي الأول والثاني، وسط توقعات بإمكانية أن يشمل ذلك الثلاثي الثالث، في غياب أي أفق لتوافق بين النقابات المعنية والحكومة.
وتصر الجامعة العامة للتعليم الأساسي والجامعة العامة للتعليم الثانوي وهما نقابتان تابعتان للاتحاد العام التونسي للشغل على استمرار حجب أعداد التلاميذ، في سياق عملية مساومة للحكومة بشأن حزمة من المطالب بينها رفع رواتب الكادر التربوي.
وفي مقابل تأكيد وزارة التربية أنها منفتحة على تحسين أوضاع المعلمين والأساتذة بما يحفظ مكانتهم الاعتبارية، تطالب بضبط روزنامة مفاوضات جديدة تنطلق في أغسطس المقبل، على أن تنتهي في موفى العام الجاري، ويتم تطبيق ما ستفضي إليه المفاوضات خلال السنة المالية 2024.
ودعت الوزارة في بيان لها صدر الاثنين كافة منظوريها من الكادر التربوي الذين لم يتمكّنوا من تنزيل أعداد الثلاثيتين الأولى والثانية، إلى تحمّل مسؤولياتهم الوطنية والتربوية والإدارية والمبادرة بتسليم أعداد التلاميذ إلى الإدارة في الآجال، مؤكدة أنها لن تتوانى في اتخاذ التدابير الإدارية والقانونية المناسبة في هذا الصدد على قاعدة العمل المنجز.
موقف الوزارة الأخير اعتبرته نقابتا التعليم “تهديدا ووعيدا”، ما يؤشر على أن الأمور بين الجانبين تتجه نحو المزيد من التأزيم، الأمر الذي سيكون فيه التلميذ المتضرر رقم واحد. ويرى متابعون أن تمسك نقابتي التعليم بحجب الأعداد ومضاعفة حزمة المطالب يتجاوز مسألة الحرص على تحسين أوضاع الكادر التربوي إلى صراع يخوضه الاتحاد العام التونسي للشغل ضد السلطة السياسية.
ويشير المتابعون إلى أن رفض النقابتين التوصل إلى تسوية منطقية، وإصرارهما على حزمة من الطلبات المالية في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أوضاع صعبة، في علاقة بتأمين سد عجز الموازنة للعام 2023، لا يخلو من حسابات سياسية. ويوضح هؤلاء أن نقابتي التعليم في تونس هما أبرز النقابات التي يراهن عليها اتحاد الشغل في العملية الجارية لابتزاز الدولة، مشيرين إلى أن ما يحدث يشكل تهديدا للمنظومة التعليمية العمومية ككل.
وقال عضو المكتب التنفيذي للجامعة العامة للتعليم الثانوي نبيل الحمروني إن بيان وزارة التربية تضمن حسب تقديره تهديدا ووعيدا ومجموعة من المغالطات والمعطيات غير الدقيقة، الأمر الذي ترفضه الجامعة رفضا مطلقا. ولفت الحمروني في تصريح لوكالة تونس أفريقيا للأنباء إلى أن في الوقت الذي كانت تنتظر الجامعة العامة للتعليم الثانوي دعوتها من قبل وزارة التربية لمواصلة التدقيق في جملة من مطالب القطاع، فوجئت بفحوى البلاغ المذكور الذي يبعد كل البعد عن "الجلوس المسؤول والجدي حول طاولة المفاوضات".
واعتبرت الجامعة العامة للتعليم الأساسي في بيان لها أن البلاغ الإعلامي الأخير لوزارة التربية تفوح منه حسب توصيفها "روائح التهديد والوعيد ويفيض تضليلا ومغالطة للرأي العام الوطني والقطاعي، وتتدلى على جنباته أساليب بالية في إدارة النزاع". وعبرت الجامعة عن رفضها لسياسات التهديد والمغالطة والتضليل المنتهج من قبل الوزارة في علاقة بالمخرج التفاوضي، معتبرة أنه توجه لا غاية له سوى تأليب الرأي العام على الكادر التربوي ودق الإسفين بين المدرسين وهياكلهم النقابية وهي غايات لن تدركها، وفق تعبيرها.
وكان وزير التربية محمد علي البوغديري قد أكّد في وقت لاحق أن بيان وزارة التربية ليس تهديدا وإنما دعوة للمدرسين إلى تنزيل الأعداد، وكشف في هذا الصدد أنّ نسبة مهمة من المدرسين قاموا بتنزيل الأعداد. وفي خضم السجالات الجارية بين النقابتين والوزارة تعالت أصوات أهالي التلاميذ ومنظمات مدنية رافضة لعملية الزج بالتلاميذ في صراعات لا علاقة لهم بها، وهي صراعات يبدو الهدف الأساسي منها ضرب المنظومة التعليمية العمومية.
وأعلنت ”المنظمة الدولية لحماية أطفال المتوسّط” إطلاق حملة ”لا لتدمير التعليم العمومي”، على خلفية أزمة حجب الأعداد، التي تعتبرها المنظّمة حلقة من حلقات استهداف هذا القطاع الحيوي. وقالت المنظمة في بيان إنّ هذه الحملة تأتي بعد حرمان التلاميذ من معدّلاتهم، وفي ظلّ شبح الارتقاء الآلي الذي قد ينجرّ عن هذه الأزمة والمشاكل التي قد يخلّفها هذا الإجراء.
ولفتت المنظمة إلى أنه ”بات واضحا أن التعليم العمومي قد تعرّض لعملية تدمير تكاد تذهب بآخر مكتسباته التي وضعت لبناته سنة 1958 كأول عملية إصلاح ناجحة ومفيدة، أسست أركان المدرسة الوطنية التي تخرّجت منها أجيال بنت الدولة الحديثة وشرّفت تونس في الخارج”. وأشارت إلى أنّ آخر إصلاح خضع له التعليم العمومي، من بين ثلاث تجارب إصلاح كبرى، يعود لسنة 2002 والمعمول به إلى اليوم، وهو نظام هجين أضرّ كثيرا بصورة التعليم وساهم في تخلّفه.
◙ تمسك نقابتي التعليم بحجب الأعداد ومضاعفة حزمة المطالب يتجاوز مسألة الحرص على تحسين أوضاع الإطار التربوي
وقالت إنّ التعليم العمومي تعرّض إلى نكسة أخرى من خارج منظومة الإصلاح منذ 2011، وتعتبر أنّه أصبح “لعبة بيد النقابات التعليمية التي استقوت على وزارة التربية والتعليم وعطّلت كل عملية إصلاح شاملة للتعليم لا تتماشى مع رؤيتها النقابية”.
وحذرت المنظمة من أنّ المدارس والمعاهد لم تعد فضاء للتربية والتعليم بل أصبحت فضاءات للصراعات النقابية والمطالب الاجتماعية، ما ساهم في النفور منها مقابل انتعاش التعليم الخاص الذي شهد تطورا كبيرا وصفته بـ”المريب” في العدد، وهو ما يقتضي فورا مراجعة التراخيص الممنوحة في العشرية الأخيرة وسن قانون جديد لهذا القطاع كي لا تصبح فيه التجارة أوّل والتعليم ثانيا، وفقا لما جاء في بيان المنظّمة.
وشدّدت المنظمة على أنّ الحملة التي أطلقتها هي “حملة توعية وقوة مقترح لكيفية إنقاذ التعليم العمومي من الانهيار واستعادة إشعاعه داخليا وخارجيّا”. وطالبت بضرورة الإسراع في تأسيس المجلس الأعلى للتربية وتنويع تركيبته لتشمل مكونات المجتمع المدني ذات الصلة بالتعليم والطفولة.
ويشرع تلاميذ الأساسي والثانوي بعد أيام قليلة في إجراء امتحانات نهاية الثلاثي الثالث، وسط خشية التلاميذ من سنة بيضاء، وقلق المعنيين بالعملية التعليمية من إمكانية ذهاب الوزارة في خيار الارتقاء الآلي. وسبق وأن لجأت وزارة التربية في العام 2015، إلى الارتقاء الآلي للتلاميذ رفضا لإضراب نقابات التعليم الذي استمر حينها لأسابيع عديدة.