الصراع الروسي - الفرنسي في أفريقيا يؤجج الانقلابات العسكرية

بات الصراع الروسي الفرنسي على النفوذ في أفريقيا يؤثر على الاستقرار السياسي في البلدان، التي تعاني هشاشة أمنية تعمقها هجمات الجهاديين. ويقول محللون إن الصراع على النفوذ يؤجج الانقلابات العسكرية في أفريقيا ويوفر للانقلابيين سلة تحالفات تكرس حكمهم.
باريس - شكلت محاولة الانقلاب في غينيا بيساو، إنذارا جديدا بأن موجة انقلابات عاصفة تهدد الديمقراطيات الهشة في دول غرب أفريقيا، انطلقت من دول الساحل التي تواجه تصاعدا للتهديد الإرهابي، لتحطّ الرحال في دول خليج غينيا.
ولا تبدو العقوبات التي تفرضها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) ضد الأنظمة الانقلابية في المنطقة قادرة على كبح جماح ضباط ميدانيين، غالبيتهم من ذوي الرتب المتوسطة، على قلب أنظمة الحكم في بلدانهم.
وفي أقل من عام استولى عسكريون على السلطة في كل من تشاد ومالي وغينيا وبوركينا فاسو، بينما فشل انقلاب غينيا بيساو الأخير.
ويتهم ضباط ميدانيون وجنود في دول الساحل الأفريقي حكومات بلدانهم بعدم تقديم الدعم الكافي والسريع لزملائهم، وعدم توفير الذخيرة بالكمية المناسبة، لمواجهة الجماعات المسلحة.وإذا تتبعنا الأسباب الحقيقية التي دفعت الانقلابيين في مالي وبوركينا فاسو وبدرجة أقل غينيا إلى الإقدام على تلك “المغامرات المجنونة”، نجد أن عدم توفير الحكومات للذخيرة بالكميات الكافية سواء من أجل مواجهة الجماعات الإرهابية أو حتى للقيام بتدريبات عادية أو مناورات عسكرية، أبرز هذه الأسباب التي دفعت إلى التحرك بغضب نحو قلب نظام الحكم في بلدانهم.
والمسؤولية لا تقتصر فقط على الرئيس وحكومته، بل تمتد إلى قائد الأركان وكبار الضباط، على غرار ما جرى في مالي وبوركينا فاسو، إذ أن الانقلابيين كانوا يطالبون بتغييرات على مستوى قيادة الأركان قبل نجاح انقلابهم.
ويتهم ضباط وجنود في غرب أفريقيا السلطات المدنية بعدم تزويدهم بالذخيرة اللازمة لقتال الجماعات المسلحة أو حتى للتدريبات خشية أن تستخدم ضدهم في عمليات انقلابية.

جيسون بلازاكيس: فاغنر تترصّد الدول التي أضعفتها الأزمات الأمنية
وبالنظر إلى كثرة الانقلابات في أفريقيا، يلجأ بعض الرؤساء الأفارقة إلى تقليص نفوذ الجيش وإضعافه، سواء من خلال تقليص ميزانيته، أو عدم توفير الأسلحة والذخائر بالكمية والنوعية التي يطالب بها الضباط.
ويدفع هاجس وقوع انقلاب الذي يراود الكثير من الزعماء الأفارقة، إلى تعيين أكثر الضباط وفاء لهم في أعلى المناصب والرتب حتى وإن كانوا أقل خبرة أو ليس لهم قبول بين الجنود.
كما يتم تغيير الضباط المشكوك في ولائهم، أو إحالتهم على التقاعد أو حتى محاكمتهم عسكريا بتهم مختلفة بينها التآمر على نظام الحكم، مثلما حدث في بوركينا فاسو ما قد يزيد من الاحتقان بين رفاقهم، الذين قد يسعون إلى الإطاحة بالرئيس لتفادي نفس المصير.
والصراع بين الرئاسة والعسكر متأصل في أفريقيا، في ظل توجس كل طرف من الآخر، وعدم الثقة المتبادلة، وفشل الحكومات على عدة أصعدة خاصة الاقتصادية والأمنية، ما يعطي للضباط متوسطي الرتب حججا لتبرير تحركهم للاستيلاء على السلطة.
وينظر الإعلام الغربي إلى الانقلابات العسكرية في دول غرب أفريقيا بأنها تعبير عن فشل سياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في المنطقة، وأن روسيا من يؤجج ويدعم هذه الانقلابات.
وساهم ذلك في صعود طبقة من الأوليغارشية العسكرية في عدد من دول غرب أفريقيا التي تميل للتحالف مع روسيا بعد أن فقدت أملها في دعم فرنسي أكبر لها بالسلاح في مواجهة الجماعات المسلحة.
وبالنسبة إلى هذه الطبقة العسكرية المشبعة بمشاعر القومية الرافضة للهيمنة الفرنسية، فإن حكومات بلدانها خاضعة لنفوذ باريس، وتنازلت عن جزء من السيادة الوطنية لصالح المستعمر القديم.
وأكثر ما يعيبه العسكريون في مالي وبوركينا فاسو ودول الساحل إجمالا أن فرنسا الحليف الأول لهم في محاربة الإرهاب لا تزودهم بالأسلحة والذخيرة اللازمة لمواجهة التحديات الأمنية، وبدلا من ذلك ترسل بضع آلاف من الجنود لمواجهة الجماعات المسلحة موزعين على مساحات شاسعة، وهو عدد قليل لا يمكنه هزيمة هذه الجماعات.
ويسود الاعتقاد لدى بعض الضباط في جيوش الساحل بالخصوص أن السياسة الفرنسية في مكافحة الإرهاب أثبتت فشلها، لأن إرسال قوات فرنسية وأوروبية محدودة العدد لقتال الجماعات المسلحة غير كاف، ولا يأتي بنتيجة فعالة على الأرض، بل يكرس الهيمنة الفرنسية على بلدانهم بدل أن يحررها من سطوة الإرهاب.
ويعطي الماليون مثالا على فشل هذه السياسة الفرنسية، ففي 2012 كانت الجماعات المسلحة تسيطر على 20 في المئة من مساحة البلاد، وبعد تدخل الجيش الفرنسي أصبحت هذه الجماعات تنشط حاليا في 80 في المئة من الأراضي المالية.
ورغم هذه الشراكة الاستراتيجية مع فرنسا وحلفائها الأوروبيين في عملية “تاكوبا” العسكرية، إلا أن البلدان الأفريقية ما زالت تعتمد على السلاح الروسي في مكافحة الإرهاب، والكثير من الضباط الأفارقة تدربوا على استعمال هذه الأسلحة في أكاديميات عسكرية روسية أو على يد خبراء روس، ما يجعلهم يحنون للتعاون أكثر مع موسكو.
وتوفر روسيا الأسلحة للجيوش الأفريقية دون شروط قاسية كالتي تفرضها الدول الغربية، ناهيك عن الفرق الشاسع في الأسعار بين السلاح الروسي الرخيص والذي يناسب ميزانيات الدول الأفريقية المحدودة، مقارنة بالأسعار المرتفعة للسلاح الفرنسي، والذي يصل أحيانا إلى عشرة أضعاف.
وظهر ذلك جليا عندما زودت روسيا مالي بمروحيات حربية وأسلحة نوعية، وهو ما لم تفعله فرنسا طيلة 9 سنوات الأخيرة، ما يجعل من موسكو الخيار المفضل للعسكريين الأفارقة، خاصة وأن التعاون معها كان قديما من أيام الاتحاد السوفييتي، وسنوات الاستقلال الأولى في الستينات.
وينعكس التنافس الروسي الفرنسي على النفوذ في أفريقيا، سلبا على الصراع بين العسكريين الأفارقة الذين لهم ميول “قومية اشتراكية” معادية لفرنسا، والسياسيين البراغماتيين الأكثر قربا من باريس.
ويمنح الدعم الروسي الضمني للانقلابيين في أفريقيا الحماية من العقوبات الأممية، كما يوفر لهم السلاح والذخيرة بشروط ميسرة، ناهيك عن إرسال مرتزقة فاغنر لدعم أنظمتهم الهشة، ما قد يغذي طموحات العسكريين في غرب أفريقيا للاستلاء على السلطة مثلما حدث مؤخرا في غينا بيساو.
وبات مرتزقة فاغنر يضطلعون بأدوار رئيسية في الجغرافيا السياسية لروسيا في أفريقيا، من المصالح المالية إلى النفوذ السياسي.
ومنذ أشهر عدة، تندد دول غربية بوصول مرتزقة روس إلى باماكو. ورُصدوا أيضا في بوتسوانا وبوروندي وتشاد وجزر القمر وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغينيا بيساو ونيجيريا وزيمبابوي. والقائمة قد تطول إذ تفيد مصادر أخرى بتواجدهم في عشرين بلدا.
ويشدد محلّلون غربيون على وجود تداخل بين القوات الروسية بما في ذلك أجهزة الاستخبارات الخارجية وأجهزة الاستخبارات العسكرية والجيش، وبين الكيانات العسكرية الخاصة.
وتقول المحللة في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية كاترينا دوكسي إن الهدف من هذا التداخل هو “تمكين روسيا من توسيع نطاق نفوذها الجيوسياسي وإعادة تفعيل اتّفاقات أبرمت قبل انهيار الاتحاد السوفييتي”.

جليل لوناس: هناك سياسة لروسيا في منطقة النفوذ التقليدي لفرنسا
وشكّلت القمة الروسية - الأفريقية التي عُقدت في العام 2019 منعطفا على هذا الصعيد. فمذّاك تتسارع وتيرة انتشار الكيانات العسكرية الخاصة في أفريقيا.
ويقول الباحث في جامعة الأخوين المغربية جليل لوناس “هناك سياسة أفريقية لروسيا خصوصا في منطقة النفوذ التقليدي لفرنسا”.
وبحسب دوكسي تؤدي هذه الكيانات العسكرية الخاصة دورا في مبيعات الأسلحة الروسية، وأحيانا تكون هي الجهة المتسلمة. وتتولى حماية القادة المحليين ومواقع التعدين التي تدر عائدات أكثر أريحية مقارنة بالأسلحة.
وتشدد الباحثة على أن غالبية زبائن هذه الكيانات هم “بلدان تمتلك احتياطيات كبيرة من الموارد الطبيعية والمعدنية وموارد الطاقة”.
وعلى غرار سوريا حيث ظهرت لأول مرة، تترصّد هذه الكيانات دولا أضعفتها أزمات أمنية، خصوصا في أفريقيا حيث “يشكّل المرتزقة معيارا” وفق جيسون بلازاكيس، مستشار مجموعة صوفان للأبحاث ومقرها نيويورك.
ويقول بلازاكيس “نظرا إلى عدد البلدان التي هم فيها، يبدو نهج الكيانات العسكرية الخاصة ناجحا. لكن أي معلومات لا تتوافر حول عديدها وشؤونها المالية”.
وتحدّث مصدر عسكري لوكالة فرانس برس عن “إعدامات خارج نطاق القضاء” راح ضحيّتها أكثر من خمسين شخصا.لكن مقاربة هذه الكيانات للمسائل الأمنية هي مدار جدل، ولاسيّما أن انتهاكات عنيفة تُنسب إليها. وتجري الأمم المتحدة تحقيقا في مجزرة يشتبه بأنها ارتُكبت في يناير في جمهورية أفريقيا الوسطى خلال عملية مشتركة للقوات المسلّحة ومجموعة فاغنر.
وفضلا عن ذلك، لا ترقى النتائج بالنسبة إلى الدولة المتعاونة مع هذه المجموعات إلى مستوى التوقعات.
في موزمبيق، تراجعت هذه الكيانات في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية إلى أن تم استبدالها بقوات من جنوب أفريقيا.
وتقول دوكسي “لم تكن لديهم أي خبرة في الميادين التي عملوا فيها في كابو دلغادو (شمال) حيث تعذّر عليهم التواصل مع قوات محلية بسبب عائق اللغة وانعدام الثقة المتبادل”.
وتضيف “تم اختيارهم لأنهم الأقل كلفة، لكن لم تكن لديهم مقوّمات النجاح”، وفي القارة “تعرّضوا لعدد كبير من الإخفاقات”.
وتحذّر المحللة الأميركية مما هو أكثر خطورة، إذ تشدد على أن الفوضى وانعدام الأمن والأزمات كلها أمور تخدم مصالح هذه الكيانات.
وتقول “إذا وظّفهم بلد على غرار جمهورية أفريقيا الوسطى من أجل تشكيل قواته، من مصلحتهم التحرر بالقدر الكافي من المهمة الموكلة إليهم لضمان استمرار توظيفهم”، لأنهم إذا “توصلوا إلى حل النزاع” أمكن التخلي عنهم.