الصدّيق الصور.. النائب العام الليبي وسط الصراعات والتوازنات

من واجهة الأحداث اليومية يبدو اسم الصدّيق الصور عنوانا للتأثير العملي على مختلف الأصعدة في ليبيا، فالنائب العام لا يتوقف دوره على الشأن القضائي، وإنما يتسع لكل السياقات السياسية والاجتماعية والمالية والاقتصادية والثقافية وحتى الدبلوماسية انطلاقا من علاقة المؤسسة القضائية مع مختلف جوانب الحياة العامة، ومن موقعها في إدارة الشأن العام في بلد يبدو أنه لا يزال يعاني تحت وطأة الظروف الاستثنائية المفروضة عليه منذ أكثر من عشر سنوات.
وبحسب أغلب المراقبين، فإن السلطة القضائية في ليبيا استطاعت أن تحافظـ على استقلاليتها خلال السنوات الماضية سيرا على تقاليدها العريقة منذ العهد الملكي، وهو ما جعلها في مرمى نار الأحزاب والتيارات المؤدلجة والميليشيات الخارجة عن القانون وحتى السلطة التنفيذية القائمة التي رفضت في مناسبات عدة تنفيذ أحكام قضائية نهائية، أو حاولت التدخل في توجيه سير المحاكم لخدمة أهداف ومصالح شخصية أو فئوية أو حزبية أو مناطقية.

وفي الحادي والعشرين من أبريل الماضي انتخب مجلس النواب الليبي، وبالإجماع، الصور لمنصب النائب العام في إطار توافقي على الصعيد الوطني، بما يشير إلى المكانة التي يحظى به الراجل لدى الفرقاء في غرب البلاد وشرقها، وبيّن عبدالله بليحق المتحدث باسم المجلس أنه جرى التصويت بأغلبية النواب الحاضرين على انتخاب الصور الرئيس السابق لقسم التحقيقات في مكتب النائب العام الليبي لمنصب النائب العام من بين 8 من أعضاء الهيئات القضائية رشحهم المجلس الأعلى للقضاء.
إجماع استثنائي
وافق مجلس الدولة الاستشاري بالأغلبية على تعيين الصور لمنصب النائب العام في البلاد بأصوات 55 عضوا من إجمالي 84، وقال إن موافقته جاءت في سياق اعتماد المادة 15 من اتفاق الصخيرات المبرم في ديسمبر 2015، والتي تنص على أن “مجلس النواب يقوم بالتشاور مع المجلس الأعلى للدولة للوصول إلى توافق بشأن شاغلي المناصب السيادية التي منها منصب النائب العام”.
وبذلك يعتبر منصب النائب العام الوحيد الذي تم التوافق عليه بين مجلسي النواب والدولة على ضوء الاتفاق الناتج عن حوار وفديهما بمنتجع بوزنيقة المغربي بخصوص التعيينات الرئيسية في المناصب السيادية، والذي نصّ على توزيع المناصب السيادية المنصوص عليها في اتفاق الصخيرات السياسي بين أقاليم طرابلس وبرقة وفزان على أن يذهب منصب النائب العام إلى إقليم طرابلس.
تسلم الصور مهام منصبه في مراسم انتظمت بحضور وزيرة العدل الليبية حليمة عبدالرحمن التي ألقت كلمة هنأته فيها على نيله ثقة المجلس الأعلى للقضاء ومجلس النواب بتسميته نائبا عاما، مؤكدة أن وزارة العدل على استعداد للعمل مع مكتب النائب العام لأجل إرساء دعائم العدالة وحماية المجتمع من الجريمة.
استراتيجية دقيقة

m السلطة القضائية في ليبيا استطاعت أن تحافظـ على استقلاليتها خلال السنوات الماضية سيرا على تقاليدها العريقة منذ العهد الملكي
خلال لقاء جمعه برئيس مجلس النواب عقيلة صالح ناقش الصور الصعوبات التي تعترض سير عمل النيابات على الأخص مسألة التشريعات والتي تحتاج إلى بحث ونظر، موضحاً أن هناك إسهابا في الكثير من التشريعات التي صدرت من المؤتمر الوطني ومجلس النواب وكانت ذات صلة بالعمل القضائي ولم يكن للقضاء والنيابة العامة فيها رأي، الأمر الذي تسبب في كثير من المشاكل.
وعن خطته المستقبلية التي سيعمل عليها مكتب النائب العام، كان الصور قد أشار إلى تفشي الجريمة والفساد، ووعد بالتركيز على الملفات الرئيسية التي تشغل الرأي العام الليبي من بينها قضايا الإرهاب والفساد، وأضاف أن كل ذلك “لكي نستطيع المساهمة في خلق أجواء من الأمن والسلم الاجتماعي، وذلك بتفعيل منظومة العدالة”، مبيناً أن النيابات في أنحاء البلاد “تحتاج إلى الكثير من الإمكانات حتى تستطيع القيام بدورها المنوط بها في ظل ضعف الأمن والحماية والتأمين للمقرات والأعضاء”، مشددا على أنه “لا بد أن يكون لدينا انسجام مع السلطات التشريعية والتنفيذية كي نتمكن من تأدية العمل المطلوب منا على أكمل واجب” وعلى الجميع التعاون وفرض أجواء من الثقة للعبور إلى بر الأمان، بعد أداء الالتزامات التي يفرضها الواجب الوطني ويأملها المجتمع.
وكان واضحا للجميع ذلك التعامل الخاص مع أهمية المنصب ودور صاحبه في تحديد معالم خارطة الوضع الراهن والمستقبل في بلد يحاول الخروج من بؤرة الصراع إلى أفق السلام والاستقرار والمصالحة والديمقراطية، لاسيما من خلال الاجتماعات التي عقدها النائب العام مع رؤساء المجلس الرئاسي والحكومة ومجلس النواب ومجلس الدولة والوزراء ورؤساء المؤسسات السيادية، والتي تمحورت في أغلبها حول تكريس القضاء كسلطة أساسية بعد السلطتين التنفيذية والتشريعية في ليبيا واحترام القانون ووضعه في مركز صدارة الفعل لبناء المجتمع الحر الديمقراطي.
وحين قرر المؤتمر الوطني الليبي إقالة النائب العام عبدالقادر رضوان بالتقاعد الإجباري وتعيين رئيس التحقيقات بمكتب النائب العام الصديق الصور نائبا عاما جديدا بدلا منه في جلسة صوت لصالح القرار فيها 60 من أصل 94 نائباً حضروا الجلسة، رفض الصور تولي المنصب، معتبرا أن الإجراءات التي تمت لاختياره “ليست قانونية”.

m توازنات كثيرة تحكم المشهد العام في ليبيا، والقضاء ليس استثناء من التأثر بالواقع والتحولات
يعتبر الصور من الشخصيات التي واجهت حملات شرسة من المتطرفين الإسلاميين بسبب ملاحقة أجهزة النيابة العامة للجماعات الإرهابية التي كانت تجد خلال السنوات الماضية حاضنة سياسية وإعلامية أكثر منها اجتماعية، وذلك في سياق الصراع على السلطة والثروة والسلاح في ظل حالة الانفلات التي عرفتها ليبيا منذ العام 2011.
أعرب الصور عن استيائه الشديد من وصف المفتي المعزول الصادق الغرياني لهجوم داعش الذي استهدف مجمع المحاكم بمصراتة بالعقاب الإلهي على ما سبق وأن أعلنه قبل أسبوع في مؤتمر صحافي عقده بصفته مديرا لمكتب التحقيقات فى مكتب النائب العام. وقال الصور “نتمنى من المفتي أن يشرح لنا وجهة نظره من الجانب الفقهي، ويبين لنا كيف يمكن أن يعاقبنا الله لأننا نتعقب تنظيم داعش، ونحاسبه بالقضاء والقانون وهو الذي قال سابقاً من سيحارب داعش في سرت ستبتلعه الصحراء، ولا نزال نتذكر ذلك التصريح، فهل نتوقع بحسب وجهة النظر هذه مزيدا من الهجمات تحت بند العقاب الإلهي لكوننا ماضون في تفكيك سرطان داعش ومحاسبته وكشف حقيقته لليبيين؟”.
وبينما اتهم الغرياني مكتب النائب العام بالانتقائية في عرض الملفات للتحقيق والمحاكمة، يرى مراقبون محليون أن من النقاط المثيرة للجدل في تجربة الصور العملية خلال السنوات الماضية الصمت على دور المفتي في تغذية الإرهاب وتوسيع دائرة الخطر الذي يمثله في البلاد من خلال الخطاب التكفيري والتحريضي المباشر الصادر عنه على قناة “التناصح” التي يديرها ابنه سهيل الغرياني وتبث برامجها من تركيا، وتعتبر أحد أبرز أبواق بث الكراهية ونشر الفتنة بين الليبيين.

ملفات شائكة
المهتمون بالشأن الليبي يعتبرون أن توازنات كثيرة تحكم المشهد العام في ليبيا، وأن القضاء ليس استثناء من التأثر بالواقع والتحولات، وإن كان يجتهد من أجل إعادة فرض سيادة الدولة على مؤسساتها.
يجد الصور نفسه أمام الكثير من الملفات الشائكة من بينها ما يتعلق بالإرهاب، حيث أكد في يناير الماضي في لقاء مع قيادات من وزارة الداخلية على ضرورة اتساق سياسات مكافحة الإرهاب والممارسات الإجرائية المرتبطة بها مع الشرعية، وطالب بضرورة وضع مخطط عملي يستهدف معالجة الملفات الأمنية ذات العلاقة، وعلى الأخص إنجاز أعمال مراجعة قاعدة بيانات الهوية الوطنية والجنسية الليبية.
ويؤكد الصور أنه لن يسمح بعمليات الخطف أو التغييب القسري خارج نطاق السلطة القضائية والنيابية، وأن القضاء يملك القدرة والرغبة والإمكانيات لأداء عمله، مشددا على أنه لا يوجد في قانون العقوبات الليبي ما يمكن تسميته بجرائم الحرب بالوصف، ولكن توجد جرائم انتهاكات ترتكب خلال الأعمال العسكرية أو بسبب دوافع وأبعاد ما، يتعاملون معها ككل القضايا الهامة والخطيرة.
ويرى أن المشكلة في إنفاذ القانون هي أن الجهات الضبطية وأدوات التنفيذ غير قادرة أو عاجزة عن تطبيق أوامر القبض، موضحا أنه بمجرد وقوع الجريمة يتم إبلاغ النيابة وتتخذ الإجراءات، وأن النيابة تقوم بإصدار أوامرها لضبط الكثير من المتهمين بهذه الجرائم، لكن المشكلة في الصعوبات التي تعترضهم في تنفيذ الأوامر.
كما يشن الصور حملة واسعة على شبكات الفساد التي باتت تتحكم في مفاصل الدولة، فيما حلت ليبيا في المرتبة 172 من بين 180 بلدا شملها المؤشر، لتكون بذلك ضمن قائمة الدول التسع الأكثر معاناة من الفساد، وفق مؤشر منظمة الشفافية الدولية لمدركات الفساد عن العام 2021. وخلال شهرين فقط أصدر مكتب النائب العام قرارات بحبس ثلاثة من وزراء حكومة الوحدة الوطنية احتياطيا بسبب تورطهم في شبهات فساد، وهو ما أعطى الصور ملامح الشخصية المتجاوزة للحسابات الشخصية والجهوية والفئوية والمناطقية والسياسية في معركتها من أجل إنفاذ القانون، فقد قرر حبس وزير الصحة علي الزناتي ووكيل وزارته سمير كوكو، وبذلك يلتحق الزناتي بزميله وزير التربية والتعليم موسى المقريف الموقوف قيد الحبس الاحتياطي منذ العشرين من ديسمبر الماضي بعد اتهامه بالتورط في واقعة الإهمال وممارسة عمل من أعمال الوساطة والمحسوبية، والإخلال بمبدأ المساواة، وفق قرار النيابة.
كما قرر الصور توقيف وزيرة الثقافة والتنمية المعرفية مبروكة أوكي بتهمة الفساد وتزوير مستندات، قبل أن يتقرر الإفراج عنها بتدخل مباشر من رئيس الحكومة ووزيرة العدل إلى حين الانتهاء من التحقيق.
غيض من فيض

m توازنات كثيرة تحكم المشهد العام في ليبيا، والقضاء ليس استثناء من التأثر بالواقع والتحولات
النيابة العامة كانت قد أصدرت قرارا بحبس رئيس لجنة إدارة الهيئة العامة لصندوق التضامن الاجتماعي احتياطيا على ذمة التحقيقات الجارية بخصوص التجاوزات المالية في الهيئة، وآخر بحبس مدير عام الشركة الليبية للاستثمارات الخارجية موسى عتيق لاتهامه بإلحاق ضرر بالمال العام.
وتبدو تلك القضايا غيضا من فيض سيل الملفات المعروضة على مكتب النائب العام الصديق الصور والتي تتعلق بالاختلاسات ونهب وإهدار المال العام والرشاوى والمحسوبية والاحتكار وتزوير المستندات الاعتمادية والتلاعب بالأسعار وغيرها، وهي جرائم تضرب في كل المجالات والمناطق والقطاعات من موسم صيد التونة وطبع الكتاب المدرسي إلى صفقات النفط والغاز والسلاح والأموال المجمدة بالخارج.
وبينما كان رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة يعد بأن حكومته ستعمل على دعم النيابة العامة بالإمكانات المتاحة التي تسهم في إنجاز عملها، مؤكداً أنها تعول على التحقيقات المجراة بمعرفة مكتب النائب العام لمجابهة تنامي ظاهرة الفساد المالي والإداري، رأى المراقبون أن الحكومة لم تقم بدورها في دعم جهود النيابة العامة، وإنما سعت في مناسبات عدة لعرقلتها، لاسيما أن الصور أبدى تمردا واضحا على السلطة التنفيذية بإصراره على استقلالية القضاء كسلطة فعلية وقائمة بذاتها، من حيث رفضه الخضوع للتداخلات الحكومية في الكثير من الملفات ومنها تلك المتعلقة بعدد من الوزراء وكبار المسؤولين.

ويهتم الصور بملفات التهريب وشبكاته العابرة للحدود والتي تضرب الاقتصاد الليبي بقوة، وبشبكات الإتجار بالبشر وتنظيم رحلات الهجرة السرية وبتعذيب المهاجرين وعمليات الاختطاف والابتزاز، وبملف المقابر الجماعية نظرا لخطورة وجسامة الانتهاكات التي وثَّقتها مدونات تحقيق النيابة العامة، وكذلك بجرائم القتل، والاعتقال خارج إطار القانون، والخطف والتعذيب، والإيذاء الشخصي، وانتهاك حرمة المساكن، والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة.
ولكن النائب العام يجد نفسه في مواقف صعبة كثيرة، فالإفلات من العقاب لا يزال واقعا ملموسا في ظل سلطة الميليشيات والجماعات المسلحة ومراكز النفوذ المالي والاقتصادي والضغوط الاجتماعية سواء كانت قبلية أو مناطقية، بالإضافة إلى التوازنات السياسية التي يمكن فصلها عن التوازنات الإقليمية والدولية في ارتباطها بالوضع الداخلي الليبي.
ويقول المقربون من الصور إنه يتابع مجريات الأحداث بدقة كبيرة، ولديه علاقات مع جميع الأطراف الفاعلة في البلاد، وهو لا يهمل ولا يتجاهل أي ملف مهما كان حجمه وحجم المؤثرين فيه، وإنما يعمل على متابعة مختلف عناصر الشبهات التي قد تتصل بأي جريمة أو جنحة، ولا يتردد في الدفع بمسؤولين كبار إلى سجن الاحتياط أو إلى قفص الاتهام مباشرة، يفعل ذلك كمن يمشي على حبل، ولكن بتوازن يقرأ حساب كل لحظة وفق ما يحيط بها من معطيات سياسية واجتماعية.
