الصحف المصرية مستمرة في دعم الدولة.. ماذا عن الابتكار؟

ينشغل الوسط الإعلامي المصري بالحديث عن التعديلات الأخيرة في قيادات المؤسسات الصحفية الحكومية وتأثيرها على المشهد خصوصا مع ارتفاع تكاليف الطباعة، غير أن القائمين على الإعلام يرون أن الدولة تدعم الصحافة، لكن السؤال المهم متى ستتعامل مع تطورات العصر بطريقة مبتكرة؟
القاهرة - تعددت التصريحات الإعلامية من جانب مسؤولين عن الإعلام في مصر بشأن دور الحكومة في دعم بقاء وتماسك الصحافة ومواجهة أزمات اقتصادية حادة، ما يعني عدم قدرة الصحف الورقية على مجاراة تطورات سوق الإعلام التي نجحت مواقع إلكترونية ومؤسسات صغيرة في تحقيق مكاسب مع اعتمادها على الاقتصاديات الرقمية في الانتشار وحجزت لنفسها مكانًا وسط مؤسسات حكومية كبيرة.
وقال رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام كرم جبر إن الصحافة المصرية باقية وصامدة بسبب دعم الدولة لها، وتقف وراءها وتدعمها ماديا ومعنويا وتحافظ على استمرارها، “وعلينا اللحاق بالتطورات في عالم الطباعة وفكرة احتضار الصحافة القومية ليست موجودة، ويجب أن نطور مستقبلها والحفاظ على المهنة”.
وأوضح في تصريحات له مؤخراً أن مجلس الإعلام يعمل على تطوير الصحافة القومية لتواكب التحول الرقمي العالمي، وعلى المؤسسات الصحافية أن تحتوي على الفنون الصحفية المختلفة في كيان واحد وتكون لديها منصات وصحافة فيديو.
ويتوالى الحديث داخل المؤسسات الحكومية، بعد التعديلات الأخيرة في قياداتها ومع استعدادها لإجراء انتخابات على مستوى أعضاء مجالس إداراتها وجمعيتها العمومية بعد أيام، حول تكاليف الطباعة الباهظة وتأثيرها على قدرة الصحف على استعادة حضورها، وتناسى العاملون في تلك الصحف أن تطورات سوق الإعلام الرقمي سبقت كثيراً مجرد الالتفات إلى صعوبات الطباعة.
وقال مصدر مطلع بصحيفة “أخبار اليوم” الحكومية لـ”العرب” إن “كلفة طباعة النسخة الواحدة من الصحيفة تكلف أكثر من 25 جنيهًا في حين يتم بيعها للجمهور بثلاثة جنيهات فقط (الدولار = 48 جنيهًا)، وإن الصحيفة تطبع عشرات الآلاف من النسخ، ولا يصل إليها مرتجع منها، ما يشير إلى إمكانية التوسع في عملية البيع”.
وأوضح المصدر ذاته أن أساليب التقشف بشأن تقليص أوراق الطباعة أو تخفيض جودتها أو الاستغناء عن الصفحات الملونة والاستعانة بالملاحق الإعلانية الاقتصادية لتعويض الخسائر، لم تحقق المرجو منها، ما يتطلب البحث عن خطة مختلفة لتقصّي كيفية الوصول إلى الجمهور عبر المنصات الرقمية، وهو أمر غاب عن أذهان الإدارات السابقة، وهناك بصيص من الأمل في أن يتغير ذلك مع وجود إدارة جديدة.
وتجدد الحديث عن مشكلات الطباعة بالصحف الحكومية عقب تراجع قيمة الجنيه مقابل الدولار بشكل رسمي، إذ أن ارتفاع سعر الدولار صاحبته زيادة في أسعار الصحف المطبوعة، لكن هذه المرة هناك قناعة بأن أي زيادة لن تحقق العائد منها، وسوف تكرس أزمة عزوف الجمهور عن شراء الصحف والمجلات.
ويتزامن الجدل الحالي مع قرار الهيئة الوطنية للصحافة، والتي تتولى شؤون إدارة الصحف المملوكة للدولة، مؤخرا بدمج مجلة “نصف الدنيا” الأسبوعية التي تصدر عن مؤسسة الأهرام مع مجلة “البيت” الشهرية، وبدت الرؤية بشأن التعامل مع الإصدارات الورقية مشوشة بين تيقّن الحكومة من عدم الجدوى وغياب أطر التطور التكنولوجي التي تساهم في تحقيق أهداف تتعلق بتوعية الجمهور والوصول إليه عبر مسارات اهتماماته الحديثة.
وقالت رئيسة تحرير جريدة “الأهالي” الأسبوعية أمينة النقاش إن الواقع يشير إلى ارتفاع أسعار متطلبات الطباعة عالميًا، وأثر ذلك على الكثير من الاقتصاديات العالمية وليس صناعة الصحافة فقط، وواقع الصحف في مصر أنها لجأت مرغمة إلى خفض أعداد النسخ المطبوعة بشكل غير مسبوق، ووجدت المبررات الكافية التي تجعلها لا تبدي الاهتمام الكافي بالمحتوى المقدم من خلال الصحيفة لوجود مواقع إلكترونية تنشر عليها المحتويات أو لقناعة إداراتها بتراجع فضيلة القراءة في المجتمع المصري.
وذكرت في تصريح لـ”العرب” أن “الصحف المصرية وجدت المبررات التي تروج لها كأسباب لتراجع تأثيرها مع الوضع الاقتصادي السائد في البلاد والذي انعكس على توجه الجمهور نحو توفير أساسيات المعيشة وتفضيلها على شراء الصحف أو الكتب، من دون أن تنظر إلى الأسباب الحقيقية التي قادت إلى عزوف الجمهور الذي لم يجد ما يجذبه إلى الصحيفة، وبات الجميع يتهرب من المأزق الأكبر، المتمثل في الإدارة السيئة لوسائل الإعلام بوجه عام، وفي مقدمتها الصحف الحكومية”.
ولفتت النقاش، التي ترأس تحرير صحيفة حزبية تتحدث بلسان حزب التجمع اليساري، إلى أن جهات حكومية عدة لم تستجب للمطالب المستمرة بضرورة فصل الملكية عن الإدارة والبحث عن الكفاءات التي تصلح لإدارة الصحف المملوكة لها، وأن نقابة الصحافيين تقدمت بمقترحات دون أن يتفاعل معها أحد، ما أفقد المواطن الثقة بتلك الوسائل، وتزامن ذلك مع ارتفاع نبرة الشكاوى الرسمية من لجوء شريحة من المواطنين إلى بعض وسائل الإعلام التي تبث الشائعات.
ويتفق مراقبون على أن هناك مشكلات متداخلة قادت إلى تأزم أوضاع الصحف المطبوعة، منها تقييد حرية الرأي والتعبير وسيطرة الأفكار المتعلقة بالاستعانة بأهل الثقة وليس الكفاءة في إدارتها، والمشكلات الاقتصادية التي تركت تأثيرات عميقة على اتجاهات الجمهور، نهاية بعدم القدرة على مواكبة التطورات الحديثة في سوق الإعلام والاعتماد على سبل تسويقية عفا عليها الزمن، والمخاوف من اتخاذ قرارات تتماشى مع تطور الإعلام الرقمي مع الاعتقاد بأن الحفاظ على ما يسمى بالرصانة المهنية يخالف ذلك.
وأوضحت النقاش لـ”االعرب” أن “المواقع الإلكترونية الصاعدة التي حققت نجاحات جماهيرية لديها قدر من الحرية وفهم لدراسة اتجاهات الجمهور واهتماماته، على عكس مؤسسات قديمة وراسخة. وغياب العقل النقدي لدى الكثير من الصحف أفقدها مصداقيتها عند القراء، وحينما تسعى لمواكبة ‘الترند’ تظهر كمن يحاول تكرار تجارب مواقع تعتمد على التشهير في الوصول إلى الجمهور، لأنها تفتقد إلى القدرة على إقناع الجمهور بتقديم محتوى يخاطب عقله بعيداً عن تجميل أية قرارات أو سياسات”.
وأكد خبير الإعلام الرقمي خالد برماوي أن بعض المؤسسات الصحفية المصرية الكبيرة حققت نجاحات إلكترونية واستطاعت الوصول إلى المواطنين عبر منصاتها الرقمية، وهناك تجارب حققت نجاحات أيضَا ولديها متابعون كثيرون إلكترونيًا، غير أن المشكلة تبقى في المؤسسات الصحفية الحكومية التي تبدو حركتها ثقيلة، وأن تصنيفها المستمر بأنها مؤسسات راسخة يجعل اتخاذ القرار داخلها معقدا.
وكشف في تصريح لـ”العرب” أن “الصحف الحكومية تعيش في بيئة روتينية، مع تراجع ضخ دماء جديدة فيها وعدم حدوث التطوير على مستوى النشر الإلكتروني في العديد من الصحف الأخرى، ما سمح لمن يمكن وصفهم بأنهم “القادمون من الخلف”، وهم المواقع الالكترونية الصغيرة التي لديها رؤية أوسع وحركة أخف وقدرة أكبر على المغامرة، بصنع جماهيرية سريعة”.
ويحمل تقييم تطور الصحف المصرية إلكترونيًا عدة أوجه، فعلى مستوى استخدام أدوات مواقع التواصل الاجتماعي وتسويق المحتوى الرقمي حققت تطورا، لكن على مستوى التقنيات والابتكار والإبداع وتوظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في إدارة المواقع والاستعانة بالواقع المعزز لتقديم محتويات صحافية مازالت متراجعة.