الصحافة المصرية في مأزق المواءمة بين إرضاء الحكومة وجذب القراء

القاهرة - تتبنى الهيئة الوطنية للصحافة في مصر خطة لتحويل الصفحات والمجلات المتخصصة بالمؤسسات الحكومية إلى ملاحق مختصرة يتم توزيعها مع الصحف، بما ينذر بنهاية عصر صحافة الخدمات التي كانت تمثل أحد خيوط التواصل بين المطبوعات والجمهور يوميا.
ويأتي ذلك مع التقليص المستمر لمساحات النشر لتخفيض تكلفة الطباعة، ووضع خطط تطوير جديدة تتضمن التخلص من المجلات المتخصصة المعروفة بمنح مساحات واسعة للمضامين ذات العائد المباشر على القارئ.
وظلت صحافة “الخدمات” الحصان الرابح الذي تعتمد عليه بعض الصحف المصرية بمختلف اتجاهاتها للاحتفاظ بجمهورها بنشر مضامين تفيدهم في شؤون حياتهم العادية، بدءا من التوظيف ومقابلات العمل وتأثيث المنزل والديكور حتى الزواج والعناية الشخصية بصحة الأسرة.
واضطرت الصحف الخاصة والحزبية إلى إلغاء الأبواب الثابتة المخصصة للخدمات وتخفيض المساحات قريبة الصلة بها بالصفحات المتخصصة، مثل الاقتصاد.
وأكدت مصادر في نقابة الصحافيين لـ”العرب” وجود خطة سيتم الإعلان عنها قريبا، لتحويل المجلات الحكومية المتخصصة التي تقدم مساحات واسعة لصحافة الخدمات إلى ملاحق بدءا من يناير المقبل، لتقليص مصروفات الطباعة، فالورق الفاخر للمجلات واعتمادها على الألوان جعلا تكلفتها أضعاف الجرائد التقليدية.
ومن المتوقع أن تشمل الخطة تحويل بعض المجلات الأسبوعية، إلى ملاحق أسبوعية أو شهرية ضمن الجريدة الأم.
ويقول صفوت العالم، أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، إن المؤسسات الصحافية عليها أن تتعامل بفكر الشركات لجذب العملاء والحفاظ عليهم بتقديم خدمات مباشرة لهم، لكنها تعاني مأزقا صعبا يتعلق بالمواءمة بين إرضاء الحكومة والمواطن، وبين اقتصاديات التشغيل ورفع السعر وضعف القدرات المالية للقراء.
المؤسسات الصحافية عليها أن تتعامل بفكر الشركات لجذب العملاء والحفاظ عليهم بتقديم خدمات مباشرة لهم
ولا تزال المجلات الحكومية المتخصصة تقدم خدمات كملء أوقات الفراغ والرحلات والكتب والمسرح والسينما والأزياء والطعام وأبواب “الحظ” و”الألغاز″ مثل الكلمات المتقاطعة وبعض وصفات الطهي والديكور وأدوات التجميل والزينة والأزياء وأخبار الطقس، لكن مساحات نشرها تقلصت وتم تفريغها من مضمونها الحقيقي.
ويضيف لـ”العرب” أن تقليص صحافة الخدمات جاء رغم إبقاء الصحف الحكومية على قسم “الرأي” المليء بالمقالات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وتقتصر على كيل المديح للقرارات التي تتبناها الدولة، وأغلبها معلومات سطحية لا يجهل بها إلا القليل.
وشدد على أن الصحف المصرية عليها ابتكار خدمات جديدة لمنافسة مواقع التواصل وللحفاظ على ما تبقى من قرائها في ظل اتجاهات رفع الأسعار، وأن تتوقف عن تخصيص مساحات واسعة لتقديم تغطيات تقليدية لأنشطة الحكومة والجهات الإدارية.
واتبعت الصحافة المصرية استراتيجيات تسويقية خلال الثمانينات والتسعينات نجحت عبرها في تحسين المبيعات، كتنظيم رحلات لأوائل الطلاب للخارج عبر رعاة، وحافلات المفاجآت لتوزيع أعداد مجانية وهدايا على القراء.
وظلت مؤسسة “الأهرام” الحكومية تحافظ بإصداراتها على إبقاء خط اتصال بينها وبين القارئ بحل مشكلاته المجتمعية عبر الاستشارات وخدمات التعارف و”طريق السعادة” و”بريد القراء” وأخيرا “واتسآب”، لكن تم وقفها بحجة تبني خطة جديدة للتطوير. وأكدت نادية فؤاد، آخر مسؤول عن “طريق السعادة” بمجلة الشباب الصادرة عن “الأهرام”، أن الباب كان قادرا على منافسة مواقع التواصل، بفضل مصداقيته المستمدة من تاريخ المؤسسة القديم. وشهد تفاعلاً اجتماعيا من الأسر وارتفاعا كبيرا في معدلات التوزيع وصل إلى 50 ألف نسخة بسببه.
وأضافت لـ”العرب” أن صحافة الخدمات أعطت الصحف الورقية على مدار تاريخها القدرة على منافسة وسائل الإعلام التي طرأت عليها، مثل البث الإذاعي والتلفزيوني والفضائي وحتى مواقع الإنترنت الإخبارية، وتقليص مساحتها يقطع آخر نقاط التواصل الحقيقي بين الجمهور والصحف.
وفي السنوات الأخيرة بدأت بعض وسائل الإعلام العربية تدرك أهمية هذا النوع من الصحافة، وتسعى لتقديمه للناس الذين يبحثون عنه بدورهم، لكن الأمر يأخذ منحى معاكسا في الصحف المصرية.
وأوضح محمد شعبان، خبير الإعلام، أن الصحف المصرية تتخلص من صحافة الخدمات ضمن اعتقاد خاطئ بأنها لا يمكنها منافسة المواقع الإلكترونية المتخصصة التي تقدم تلك المضامين، لكن هذا التصور قاصر على تعريف الخدمات من الأساس.
ولم تواكب الصحف المصرية الاتجاهات الجديدة في تقديم “الخدمات” وظلت بعيدة تماما عن التطور التكنولوجي، حتى صفحات الطهي تقدمها كما هي دون تجديد، رغم وجود عدة فضائيات متخصصة تحول الطهاة إلى نجوم لهم جمهور لا يقبل إلا وصفاتهم.
وأشار شعبان في تصريح لـ”العرب” إلى أن روح الخدمات يمكن تضمنيها في غالبية الموضوعات الصحافية وعدم قصرها على باب واحد، حتى يشعر القارئ العادي بوجود عائد حالي أو مستقبلي من القراءة أو شرائه الصحيفة، كالتوقعات المستقبلية لأسعار العقارات والسيارات والمعادن النفيسة والتي تشغل بال الكثيرين ويبحثون عن تطوراتها باستمرار.
ولا توجد إحصائيات رسمية عن حجم توزيع الصحف بمصر حاليا، لكن جهات مستقلة تقدرها بنحو 400 ألف نسخة يوميا مقابل 2.5 مليون نسخة قبل سبع سنوات.
ولفت شعبان إلى أن الجانب التكنولوجي والصحي غائب تقريبا عن صحافة الخدمات، فلم تفكر الكثير من الصحف في تقديم خدمات تكنولوجية تواكب العصر في ما يتعلق بالهواتف المحمولة والتطبيقات، وحتى من يقدمها يستخدم لغة معقدة لا يفهمها القارئ.