الصامت الذي يروي الحكايات

"مسافر زاده الخيال/ والسحر والعطر والظلال" كما تخيله محمود حسن إسماعيل في قصيدة النهر الخالد التي غناها محمد عبدالوهاب. هو ليس ذلك العاشق التائه الذي غنى له عبدالوهاب "يا مسافر وحدك وفايتني/ ليه تبعد عني"، ومن بعده غنتها نجاة الصغيرة.

ولقد اُتهم عبدالوهاب بسرقة اللحن من أغنية يونانية ولم ينكر ذلك. كان عبدالوهاب سارقا عظيما يفخر بسرقاته. فهو يوظفها بطريقة تمحو عنها إثم السرقة.

من نجاة إلى وردة، كان هناك سلم صوت يختلف في تلوين درجاته. علينا أن نمشي في إثر خطى ذلك المسافر لكي نلتقط قوة تأثير حضوره الذي يظهر في الأغنية باعتباره غيابا.

من الرقة الفائضة في صوت نجاة إلى الشهوة المتأججة في صوت وردة، خلق عبدالوهاب مساحة حديقة كانت عبارة عن قارة لسفر خيالي. ولأن السفر موهبة، فإن الغربة لن تكون نقيضه. لكي تكون غريبا ينبغي أن تكون مسافرا.

"خايفة لما تسافر عالبلد الغريب"، تقول شادية، وهي لمَن شغف بصوتها، امرأة البيت التي لا تفارق النافذة "م الصبحية/ وأنا في الشباك مستنية".

علق صوت شادية بذاكرة محبيه بشفافية حضور المرأة الجميلة بعاطفة بريئة. وإذا كان عشاق السفر قد اختلفوا في إحصاء فوائد السفر، فإنهم يجمعون على أنه أسلوب في التعلم والمتعة والتعرّف على عادات الشعوب ورؤية مواقع جديدة للجمال، كما أنه يجدد النفس ويحسن المزاج ويعلم الإنسان التسامح.

كان هناك كتّاب عاشوا حياتهم كما لو أنهم مسافرون، وكتبوا عن أسفارهم والمدن التي زاروها أو عاشوا فيها ردحا من الزمن، أندريه مالرو، إرنست همينغواي، هنري ميلر.

وكانت طنجة المغربية هي المكان المحبّب لإقامة الكتاب والموسيقيين العالميين. الفرنسي جان جينيه هو أشهر مَن عاش فيها. لا يزال قبره هناك في العرائش قريبا منها.

أما رواية "على الطريق" لجاك كريوك التي صدرت عام 1957، فهي مبنية على الرحلات التي قام بها كاتبها بين المدن الأميركية.

يسافر الكثيرون إلى دبلن الأيرلندية بهدف أن يمشوا وراء ليوبولد بلوم بطل رواية "يوليسيس" التي كتبها جيمس جويس، وتعتبر أهم رواية في القرن العشرين.

في تلك الرواية، كبيرة الحجم، سجل جويس خط سير بلوم داخل مدينة دبلن خلال يوم عادي هو 16 يونيو 1904. وهو اليوم الذي يحتفل به معجبو جويس حول العالم، ويسمونه "يوم بلوم".

في الماضي، عرف العرب أدب الرحلات، وكان ابن بطوطة وهو أشهر المسافرين العرب قد قال "السفر يتركك صامتا، ثم يحولك إلى قصاص" و"حمد الله عالسلامة يا بو أجمل ابتسامة" كما قالت نجاة الصغيرة لمحمود ياسين.