الصادق المهدي زعيم حزب الأمة السوداني يترجّل تاركاً ألغازاً سياسية تلاحقه

حرص المهدي على أن يكون محورا رئيسيا في حزب الأمة تسببت بانقسامات عديدة، ما قلل من حظوظه في الحلبة السياسية إبان عهد البشير.
الأحد 2020/11/29
رقم محير في معادلات الحكومة والمعارضة والقوى الإقليمية

شيع الكثير من السودانيين، الجمعة، جثمان الراحل الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي، وسط مشاعر رسمية وشعبية حزينة، فالرجل الذي ترجل عن عمر يناهز الخامسة والثمانين عاما، صاحب كاريزما واضحة، وأحد العلامات البارزة في الحياة السياسية بالسودان على مدار نحو ستة عقود، في الحكم والمعارضة، وهو مقيم في الداخل أو الخارج، حيث جعلته الأفكار التي تشبع بها، وهي غزيرة، محيرا لأصدقائه وخصومه معا.

جمع المهدي بين توليفة سياسية نادرة، أدت به ليكون قريبا وبعيدا في الوقت نفسه من قوى حزبية مختلفة ومتناقضة، وخاض معارك سياسية ضد نظام عمر البشير، ولم يمانع من القبول بالتحالف معه أحيانا، وقبل أن يكون ابنه اللواء عبدالرحمن القيادي بحزب الأمة، مساعداً للبشير الذي اعتلى السلطة عبر انقلاب عسكري عام 1989، وقت أن كان المهدي الأب رئيسا للوزراء، ولا تقل تحولاته وتصوراته الخارجية عن نظيرتها في الداخل، ولذلك ظل رقما عصيا على الفهم لدى البعض، لأن مواقفه وآراءه بدت غامضة للبعض.

ملف إيران الغامض

رحل المهدي وترك خلفه ميراثا كبيرا من الألغاز السياسية على مستوى توجهاته الخارجية حيال قوى عربية وغير عربية، وهو في الحكم أو المعارضة، فكان مع تفهم خصوصية العلاقة مع مصر وضدها في بعض الأحيان، وهكذا بدا حاله مع السعودية، بينما بقي قريبا من إيران معظم الأوقات، ولم يرفض خطابها الإيديولوجي، وكأنه ينسجم مع الجزء العقائدي في أفكاره التي وضعته في أوقات كثيرة في خندق واحد مع الحركة الإسلامية، وتفرقت السبل بينهما على وتر المنافسة السياسية.

عندما قطع السودان علاقته بإيران عام 1983 وراجت معلومات حول قيام الرئيس جعفر نميري بإرسال قوات إلى العراق لمساندته في حربه ضد إيران، أعلن حزب الأمة رفضه لهذه الخطوة، وبعد أن اعتلى المهدي رئاسة الحكومة، عقب مضي ثلاثة أعوام من قطعها، أعاد العلاقات مع طهران، وأنشأ لها أول مركز ثقافي بالخرطوم، ولاحقه اتهام بأنه أول من مهد الطريق لفتح المراكز الثقافية الإيرانية في السودان.

الوفرة المعرفية والثقافية والتجارب الخبرات المتعددة، عوامل منحت المهدي فرصة ليكون حاضرا في كثير من المنتديات الإقليمية والدولية، ساعدته على تعزيز وجوده في قلب الحياة السياسية في السودان، ووفرت له ظهيرا فكريا وشعبيا يدافع عنه

لم تتغير كثيرا مواقف المهدي من إيران على مدار تاريخه، ويبدو أن ميوله الدينية التاريخية المتجذرة في عقله كانت سببا رئيسيا في تفهمه لخطاب طهران، وهو ما يتباعد تماما عن نظرته الإيجابية للديمقراطية والحريات السياسية وحقوق الإنسان وتكريس جهده وافر للحديث عن مدنية الدولة العصرية، وإيمانه الظاهر، ورمبا المفتعل، بأن الحركة الإسلامية أدخلت بلاده في مآزق عديدة.

يقترب المهدي من رؤية الكثير من السودانيين في مسألة التعامل مع التيار الإسلامي، فهم لا يرون غضاضة في التفاهم أو عقد صفقات سياسية معهم، وقد تكون فترة حكم البشير غيرت رؤية البعض منها، لكنها لم تقترب من المهدي أو تجبره على التخلي عن تقديراته في المناحي الإسلامية.

تغيرت حساباته في الداخل، بعد أن قفز على السلطة غريمه حسن الترابي عبر انقلاب عسكري دبرت له الجبهة الإسلامية القومية التي كان يقودها الترابي، لكن ظلت ميوله حيال طهران تحظى بتعاطف لافت، كأنها أثارت في نفسه حلما دينيا غائرا، أو رأى فيها نموذجا يدغدغ العواطف الشعبية، التي لعب عليها طويلا.

ومكنته من أن يصبح رقما مهما على مدار العقود الماضية، فلم يخفت نجمه حتى في الفترات التي قبع فيها بالسجن، بقي يتردد اسمه، وهي فترات متقطعة، حصد منها مكاسب سياسية كبيرة وكانت كفيلة بالرد على من اتهموه بأنه متحالف خفي مع البشير.

صفقات سياسية

علاقته الجيدة بالسعودية لم تدفعه لتبني مواقف سياسية معتدلة في القضايا الإقليمية التي تعد الرياض شريكاً أساسياً فيها وتمثل أهمية مصيرية، وفي الوقت الذي يعتبر فيه البعض ذلك ميزة للمهدي، رأه آخرون "انتهازية سياسية"
علاقته الجيدة بالسعودية لم تدفعه لتبني مواقف سياسية معتدلة في القضايا الإقليمية التي تعد الرياض شريكاً أساسياً فيها وتمثل أهمية مصيرية، وفي الوقت الذي يعتبر فيه البعض ذلك ميزة للمهدي، رأه آخرون "انتهازية سياسية"

لم تشفع علاقته الجيدة بالسعودية لتبني مواقف سياسية معتدلة في القضايا الإقليمية التي تعد الرياض شريكا أساسيا فيها وتمثل أهمية مصيرية، وفي الوقت الذي يعتبر فيه البعض ذلك ميزة للمهدي، رأى آخرون “انتهازية” فيها، حيث صبغت الكثير من التحركات التي قام بها الرجل، وأخفت جانبا من توجهاته التي حكمت سلوكه، وتعد استعادتها وسيلة لتفسير بعض المواقف التي ظهر فيها المهدي وكأنه من عالم آخر.   

أصدر حزب الأمة القومي، بزعامة الصدق المهدي، في 21 أكتوبر عام 2015 بياناً رفض فيه مشاركة السودان في التحالف المعروف بـ “عاصفة الحزم” وإرسال قوات سودانية لتقاتل إلى جانب القوات العربية والإسلامية بقيادة السعودية في اليمن، وهو ما عزز حنينه المستتر لدعم إيران، لأن الرفض لم يكن لأسباب أخلاقية أو ضمن ديناميته لمعارضة البشير، بل لدواعي عدم وقوف الخرطوم في مواجهة الحوثيين المدعومين من طهران.

وأذاعت قناة “الإخبارية” السعودية في ذلك الوقت، تقريرا نقلا عن مصادر لم تكشفها، أكدت فيه أن المهدي اتفق مع سفير قطر في الخرطوم على العمل معاً من أجل تأليب الرأي العام في السودان ضد السعودية.

في كثير من تصريحاته وحواراته، كان يتعمد التلميح إلى أن هناك مساحات مشتركة بين العرب وإيران من الضروري استثمارها، وهي نابعة من تربيته الدينية، وتزعمه لطائفة الأنصار الصوفية، والتي لا يخفي أعضاؤها انجذابهم للقوى الإسلامية عموما، ورغم المآسي الذي عاني منها الصادق المهدي شخصيا على يد حسن الترابي لم يتلاش البعد الديني في تصرفاته، ومكنه من الدخول في حوارات مع قوى إسلاموية في دول عديدة، ما ساعد على تسويق مقولة اقترابه من فكر جماعة الإخوان.

إيران تبقى ملفاً سرياً وغامضاً في حياة المهدي، فهو في معظم الأوقات، لم يرفض خطابها الإيديولوجي، وكأنه كان ينسجم مع الجزء العقائدي في أفكاره التي وضعته في خندق واحد مع الحركة الإسلامية، بينما فرقت بينه وبينها المنافسة السياسية

روج المهدي في أكتوبر 2017 لحديث عن أسس السلام في المنطقة، ينطلق من إبرام معاهدة أمنية، بقيادة السعودية ومصر وتركيا، مع إيران للتعايش واحترام السيادة الوطنية، قائلاً “هذا ما ظللنا ننادي به ويبدو أن وقته قد حان”.

يظل اللغز الكبير مستمرا حول عملية اغتيال محمد مهدي الحكيم، وهو معارض عراقي شيعي، من أسرة الحكيم، بالخرطوم في يناير 1988، أي خلال حكومة الصادق المهدي التي استمرت من 1986- 1989، حيث ذهب الحكيم إلى هناك بدعوة من الجبهة الإسلامية، وتبنى مبادرة قبيل اغتياله للمصالحة بين المهدي والترابي، ووافق عليها الطرفان، لكن عملية اغتياله حالت دون استكمال الخطوة.

مع أن التحقيقات وقتها أشارت إلى أن السفارة العراقية في الخرطوم دبرت عملية الإغتيال، غير أن تنفيذها داخل السودان حمل معاني ومضامين أكدت أن علاقة المهدي بإيران والقوى المحسوبة عليها كانت مستفزة لبغداد، وسمحت للسودان لأن يعج بالقوى الشيعية المناهضة للنظام العراقي وقتها، الأمر الذي جعله لا يتردد في أن يقدم على تصفية الزعيم الشيعي البارز في بهو فندق بالخرطوم.

وضعت دوائر سياسية جانبا من مسؤولية الاختراق الإيراني لدول أفريقيا من بوابة السودان على عاتق الصادق المهدي، فقد سمح بذلك خلال فترة رئاسته للحكومة، ما جاء على هوى نظام البشير بعد أن أفصح عن توجهاته الإسلامية، ولم تقم الخرطوم بتقليم أظافر طهران السياسية والثقافية سوى بعد أن وضعت علاقتها مع الرياض على المحك، وبعدها قرر البشير تصفية جزء معتبر من البؤر الإيرانية العاملة في السودان.

المهدي يجمع في شخصيته توليفة سياسية نادرة، أدت به إلى أن يكون قريبا، وبعيدا في الوقت نفسه، من قوى حزبية مختلفة ومتناقضة، فخاض معارك سياسية ضد نظام البشير، ولم يمانع من القبول بالتحالف معه أحيانا
المهدي يجمع في شخصيته توليفة سياسية نادرة، أدت به إلى أن يكون قريبا، وبعيدا في الوقت نفسه، من قوى حزبية مختلفة ومتناقضة، فخاض معارك سياسية ضد نظام البشير، ولم يمانع من القبول بالتحالف معه أحيانا

التزم المهدي بجانب كبير من المرونة، وامتلك مروحة سياسية واسعة، أبقته عنصرا مهما في غالبية التطورات التي مر بها السودان، وجعلته منفتحا على قوى متباينة، وحاول التخفيف من ترسيخ انطباعات بالإزدواجية بين أفكاره ومواقفه، من خلال ما كان يتمتع به من قدرة فائقة على التنظير السياسي.

ومنحته الوفرة المعرفية والثقافية والتجارب الخبرات المتعددة، فرصة ليكون حاضرا في كثير من المنتديات الإقليمية والدولية، وهي ميزة ساعدته على تعزيز وجوده في قلب الحياة السياسية في السودان، ووفرت له ظهيرا فكريا وشعبيا يدافع عنه، وأبعدته كثيرا عن يد البطش التي عرف بها النظام السوداني في عهد البشير.

تحريك الشارع

لعب المهدي دورا لا ينكره أحد في التمهيد لتحريك الشارع السوداني من خلال اقترابه من القوى التي حركت الثورة ضد نظام البشير، ولذلك كان في قلبها، ووجدها فرصة ليختم حياته السياسية وهو في قمة السلطة، باعتباره الحاكم الضرورة، عندما اشتدت الخلافات بين القوى المدنية والعسكرية، ومالت مواقفه كثيرا نحو الجيش، ووجه انتقادات حادة لتحالف قوى الحرية والتغيير، وجمد نشاط حزب ثم عاد إليه ومعه قائمة من الشروط، وأفضت بعض الارتباكات التي ظهرت على تقديراته إلى أن يكون قريبا من غالبية القوى، من دون التعويل عليه كثيرا في الحكم، وهو في سن متقدمة.

تسارعت وتيرة التحركات داخل قوى الثورة بصورة بعيدة عن طموحات وأحلام المهدي، ولم يستطع أن يقدم نفسه كخيار تلتف عليه وحوله القوى الوطنية، فهو من ميراث الماضي بكل مراراته السياسية، ومحركو الثورة من الشباب الذين انقلبوا على البشير ومن كانوا معه أو على هامش سلطته التي تغولت وقت أن وُجدت المعارضة مفككة، وسمح بعض قياداتها بتلاعب حزب المؤتمر الوطني الحاكم بها.

 دراسته في أرقى الجامعات البريطانية لم تفلح في أن تجعله يتخلى عن الكثير من الميراث الديني الذي تشبع به منذ الصغر، واستمر معه حتى وفاته
 دراسته في أرقى الجامعات البريطانية لم تفلح في أن تجعله يتخلى عن الكثير من الميراث الديني الذي تشبع به منذ الصغر، واستمر معه حتى وفاته

أدى حرصه على أن يكون محورا رئيسيا في حزب الأمة إلى أن تعصف به الانقسامات التي حولته إلى كيانات تابعة لأشخاص، ما قلل من حظوظه في الحلبة السياسية ابان عهد البشير، وبعد سقوطه، وحاول المهدي عدم الوقوف عند هذه اللحظة، لكن لسان حال الشباب يقول، إذا كان الرجل لم يتمكن من أن يجمع شتات حزب سياسي، فكيف يستطيع جمع شتات شعب متمزق بين قوى مختلفة؟

حافظ الرجل على تقدير النخبة لتاريخه الطويل، لكنه أخفق في اقناع شباب الثورة بأنه قريب منهم بما يكفي، ولذلك جاءت غالبية مواقفه بعد سقوط البشير قريبة من الأفكار النظرية التي يمكن قراءتها في المراجع السياسية، وربما يكون هذا الثبات أو الجمود جنى على مسيرة الصادق المهدي، لأنه لم يقم بمراجعة هيكلية حقيقية لكثير من أفكاره، على الرغم من أن التجارب العملية أثبت صعوبة تطبيقها.

ولم تفلح دراسته في أرقى الجامعات البريطانية في أن تجعله يتخلى عن الكثير من الميراث الديني الذي تشبع به منذ الصغر، واستمر معه حتى وفاته، لذلك كلما حاول الإيحاء بعدم تمكن الانتماء الديني من أفكاره، جاءت مواقفه اللينة من دولة مثل إيران أو تركيا، أو حتى جماعة الإخوان، لتفضحه، وتؤكد أن هواه السياسي على مدار تاريخه بقي منحازا للتيار الإسلامي.

8