الشيخ عبداللطيف دريان، متى يصرخ؟

رجال الدين المسلمون لا يقفون عادة مع شعوبهم. هذا شيء نادر إن حصل. وكل ما لدينا منه سجلات محدودة من الماضي. هم يقفون مع الطغاة، خوفا منهم أو طمعا. فيقدموا لطغيانهم التبريرات والمعاذير، ويتوسلون الرضوخ لهم وفقا لنظرية “حاكمٌ ظلوم خيرٌ من فتنة تدوم”، فيظل الحاكم والفتنة تدوم! وهي نظرية لا يوجد لها أثر في القرآن الكريم، ولا في السنة، إلا وفق تأويل على تأويل، يجمع الكذب والافتراء بسوء التفسير.
والشيخ الدكتور عبداللطيف دريان مفتي لبنان ليس واحدا من هؤلاء. ولكن ما يزال من المأمول أن يؤدي دوره في الوقوف إلى جانب اللبنانيين، ليس في مواجهة “حاكم ظلوم” فحسب، ولكن في مواجهة “الفتنة التي تدوم” في آن معا.
لا يتدخل الشيخ دريان بشؤون السياسة. وهذا شيء يُحسب له، ويُحسب من فضائله وفضائل علمه. ولكن نصرة اللبنانيين على نظام فساد وظلم وقهر وتمييز وارتهان للخارج، ليس سياسة. إنه دين. بل إنه هو الدين. ومن لا يأخذ به، فلا دين له، ولا يجوز أن يدّعيه.
لا أريد التشبيه بالبطريرك بشارة بطرس الراعي، فلهذا الرجل الوطني النبيل معركته الخاصة داخل بيئته. وهو يخوضها ليس من أجل المسيحيين الذين وقعوا تحت قبضة فاسدين ومتكبرين ومتجبرين ومنافقين ومرتهنين، ولكنه يخوضها من أجل كل اللبنانيين.
وفي كل عظة له، وفي كل نداء وموقف، إنما يتدخل الراعي بالدين! ذلك أن ما انتهى إليه لبنان تحت سلطة تجار المخدرات الشيعة، وتجار الفساد المسيحيين، وتجار الخنوع السُنة، وتجار العجز الدروز، ما عادت السياسة تكفي لمواجهته، بل صار أمرا لزاما على الدين. لكي يبقى دينا. فلا يتحول إلى نفاق.
النظام الذي ظل قادرا على التجديد لنفسه، بانتخابات أو من دونها، هو الذي يجب أن يسقط. وعودة الطائفية السنية إلى المشاركة في الانتخابات يجب أن ترتبط بالتغيير
ولا شيء أعلى صوتا من أنين اللبنانيين. إنهم لا يتضورون جوعا فقط. إنهم يبكون أنفسهم وحال بلد انتهى إلى أيدي مجرمين، فقتلوه، وصاروا يرقصون على جثته، لكي يمارسوا الابتزاز بها، والشحاذة عليها.
رجل الدين الذي لا يسمع صوت الأنين، ليس له دين. والذي يتردد في أن يقول كلمة الحق في وجه الظالمين بريءٌ منه الدين.
الأزمة ليست أزمة اقتصادية. ولا هي أزمة سياسية. إنها أزمة نظام لم يعد مناسبا لكل وجه من وجوه الحياة، أو الدين، أن يظل قائما. يجب أن يسقط على رؤوس الذين دفعوا البلاد إلى جهنم.
هذا النظام يحتاج أن يُعاد النظر فيه، كله على بعضه؛ في أساساته، كما في معاييره الدستورية، ونظامه الانتخابي، وطبيعة حكومته وصلاحيات رئاسته وأدوار مؤسساته، وعمل أحزابه.
ولئن كان ذلك من واجب اللبنانيين ونخبتهم لكي يتداولوا حول أسس ومعايير إعادة البناء، فإن الخطوة الأولى على هذا الطريق، تبدأ من هدم النظام القائم؛ من دفعه إلى الهاوية.
لكي يخرج اللبنانيون من جهنم، فإن أهل النظام هم الذين يجب أن يدخلوها. هم أولا.
لا يوجد حل آخر. والتسويات التي تمت تسويتها على تسويات تسويف، انتهت إلى أنها تسويات عنف وقهر وفساد وتزييف. وهي قصدت المحافظة على النظام، حتى ولو مات بسببها لبنان؛ حتى ولو تم قهر اللبنانيين بالظلم والظلام والجوع.
يسقط هذا النظام، إذا ما تخلى المسلمون عن دعم بقائه أو التجديد له بانتخابات برلمانية تجدد العهد للزيف والتسويف. ولسوف يجدون في المسيحيين أخوة لهم وشركاء. وهذا ليس سوى تأكيد على صواب الطريق.
يسقط هذا النظام إذا انسحب العمود من تحت بنيانه.
سوف تنشأ فوضى، ولكنها ستكون فوضى تفتح طريقا للأمل ببلاد جديدة، تتوفر لها مواردها التي لا تذهب إلى فاسدين.
وهل من فوضى أسوأ مما يعيش اللبنانيون فيه الآن؟ وهل من جريمة أعنف من أن تكون البلاد بلا خدمات ولا كهرباء، ولا دواء ولا أجور تكفي للخبز الحاف؟
رجل الدين الذي لا يسمع صوت الأنين، ليس له دين. والذي يتردد في أن يقول كلمة الحق في وجه الظالمين بريءٌ منه الدين
لا أعرف كيف يأكل الشيخ دريان، أو في أي غرفة مضاءة يقرأ الكتاب، أو كيف ينام، ولكني أرجح أنه يتألم. إلا أنه لم يصرخ بعد، صرخة الحق التي ينتظرها منه اللبنانيون أجمعين.
نبيل منه ألا يتدخل في السياسة، ولكن نبيل منه أكثر أن يتدخل بالدين. ذلك أن حال لبنان هو الكفر الصريح. هو الجريمة التي لا أظلم منها ولا أكثر وحشية وعنفا بحق كل دين.
يكفي أن يقول إنه بريء من كل مَنْ يتقدمون إلى الانتخابات باسم السُنّة. يكفي أن يقول إنه ليس من السُنّة الشريفة في شيء أن يكون أي أحد شريكا في نظام ظلوم، أو يمارس تسويات الفساد وحصصه فيه. يكفي أن يقول لتاجر المخدرات الشيعي: لكم دينكم ولي دين. ولتاجر الفساد المسيحي: لكم دينكم ولي دين. هذا نظامكم فخذوه. ليست لنا حصة فيه.
ليست القصة أن تتعطل الانتخابات. هذا افتراض هزيل. القصة هي كلمة الحق التي يجب أن تقال بحق النظام وطبيعته ومؤسساته.
النظام الذي ظل قادرا على التجديد لنفسه، بانتخابات أو من دونها، هو الذي يجب أن يسقط. وعودة الطائفية السنية إلى المشاركة في الانتخابات يجب أن ترتبط بالتغيير.
التغيير كان واجبا منذ أن توقفت الحرب الأهلية عام 1990. تلك الحرب نفسها أثبتت أن ما قام على أساس فاسد، كان من السهل أن يندفع إلى تلك الجريمة التي أزهقت عشرات الآلاف من الأرواح ودمرت قيم التعايش، بل دمرت معنى أن يكون لبنان “سويسرا الشرق”.
ولئن انتهت التسويات التي أوقفت تلك الحرب، ومنها “اتفاق الطائف”، إلى تجميل النظام، فقد كان من الطبيعي لقوى الفساد أن تأخذ التسوية إلى تسويف، والتسويف إلى تزييف، حتى بلغ لبنان ما يبلغه الآن من دمار اقتصادي واجتماعي وسياسي، وحتى وصلت الحلول إلى أن كل واحد منها بات أسوأ من الآخر.
النظام نفسه كان يجب أن يسقط منذ ذلك الوقت ليقف اللبنانيون على أرض دستورية وأخلاقية واجتماعية وسياسية جديدة.
أكثر من ثلاثين سنة مضت على ذلك الاستحقاق، وبقي لبنان يدور على دورة الفساد نفسها، حتى دفع اللبنانيون ما يعادل عشرة أضعاف تكاليف بناء محطات توليد كهرباء تكفي لإنارة عشر دول بحجم لبنان. ولكن، لم يشبع الفاسدون. ولا ارعوى تاجر المخدرات فيه، ولا تاجر التبعية، ولا تاجر الدين.
وقف التمديد لهذا النظام؛ دفعه إلى الهاوية، ينتظر الشيخ دريان ليقول فيه كلمة الحق التي تأخر قولها ثلاثين سنة.
كلمة الحق التي لا تقال الآن، لا يصح أن تنتظر إلى يوم يُسألُ الناس عما فعلوا وعما لم يأخذوا بدينهم فيه.