الشيخ الفاضل بن عاشور.. إسلامي نقابي ناصر المرأة ورفض التعصب

لا أظنّ أن هناك رجل دين في تونس خلال النصف الأول من القرن العشرين جمع خصالا كثيرة دينيّة وأخلاقيّة وسياسيّة وإنسانيّة جعلت منه الشيخ الوقور مسموع الكلمة والرأي والنصيحة في شؤون الدنيا والدين مثلما كان حال الراحل الكبير الفاضل بن عاشور الذي ولد عام 1909.
في كتابه "أعلام تونسيّون"، ذكر الباحث التونسي صادق الزمرلي أنّ عددا كبيرا من النّساء حضرن جنازة الشيخ الفاضل بن عاشور يوم وفاته في الثالث والعشرين من شهر أبريل 1970، و"شرَعْن في النّحيب على نحو مؤثّر يذكّرنا بنحيب النّائحات في جنائز الأموات القديمة". ولم يكن ذلك إلاّ خير دليل على الشّعبيّة الهائلة التي كان يتمتّع بها الشيخ العلاّمة وعلى المكانة السّامية التي كان يحتلّها في قلوب أهل الحاضرة، وكافّة التّونسيين الذين بكوا رحيله بحرقة بالغة.
تونس أوائل القرن العشرين
ينتمي الفاضل بن عاشور إلى عائلة متمدّنة اشتهرت بتعطّشها للعلم والمعرفة. وكان والده الشّيخ محمد الطاهر بن عاشور (1879-1973) من كبار علماء جامع الزيتونة ومن ألمع فقهائها.
وعن نشأته كتب يقول: "نشأت في ظلّ العناية المتوافرة من والدتي ووالدتها ووالدي ووالده ووالدته والجدّة الكبرى وجدّتي والدي، ووالدتي معا". وكان في سنّ الثالثة لمّا شرع الفاضل بن عاشور في حفظ القرآن ليتمّه عند بلوغه التاسعة من عمره.
إلى جانب ذلك، تعمّق مبكّرا في تعلّم اللّغة العربيّة والاطّلاع على آدابها، كما تعلّم اللّغة الفرنسيّة. وفي عام 1928 أحرز على شهادة التّطويع من جامع الزّيتونة. وفي فترة النّشأة والتّكوين تلك كانت حركة الإصلاح والتّحديث التي كان للمصلح الكبير خير الدين باشا التونسي الفضل في بعثها وفي إرساء دعائمها قد نضجت قاطعة أشواطا مهمّة في التطّور والتّغلغل في المجتمع التونسي. وكانت قد فرضت وجودها على النّخبة التّونسيّة لتصبح مصدرا أساسيّا لها في مختلف توجّهاتها الفكريّة والسياسيّة.
ورغم المضايقات التي كانت تلجأ إليها السّلطات الاستعمارية لعرقلة مسيرتها، فإن النّخبة التونسيّة تمكّنت من أن تتحوّل إلى قوّة لا يستهان بها في مواجهة الاحتلال، وفي مقاومة مختلف أشكال الجهل والتّخلّف والتّزمّت المتفشيّة في البلاد بشكل مخيف. وبشجاعة كبيرة وبدراية وحنكة راحت النخبة التونسيّة تدافع عن أفكارها الإصلاحيّة والتحديثيّة مستعينة بالجرائد التي بعثت للوجود في تلك الفترة مثل "الحاضرة"(1888) وجريدة التونسي (1907).
كما كانت تستعين في عملها ونشاطاتها بالجمعيّات التي تمّ تأسيسها مثل "الخلدونيّة"(1886) وجمعيّة قدماء الصّادقيّة (1905).وبفضل أوّل لجنة لإصلاح التّعليم الزّيتوني التي أنشئت عام 1898 برئاسة الوزير الأكبر محمد بوعتّور، وهو جدّ والد الفاضل بن عاشور، أضيفت إلى برامج التعليم التي كانت تقتصر على المواد الفقهيّة والدينيّة، موادّ جديدة مثل الحساب والهندسة والتاريخ والجغرافيا.
وقد ساهمت الزيارة الثانية التي أدّاها الشيخ المصري المصلح محمد عبده إلى تونس وذلك عام 1903 في جعل النخبة التونسيّة مؤمنة أكثر من أيّ وقت مضى برسالتها الإصلاحيّة والتّحديثيّة.
وعلينا أن نشير إلى أن الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، والد الفاضل بن عاشور، كان واحدا من الذين استقبلوا الشيخ محمد عبده إلى جانب كلّ من الشيخ سالم بوحاجب والشيخ النخلي والعديد من الشيوخ الآخرين الذين كانوا من المعاضدين لحركة خير الدين الإصلاحيّة.
ومن المؤكّد أن الفاضل بن عاشور انجذب مبكّرا إلى أفكار التّنوير والاجتهاد، لذلك سوف نجده في ما بعد منتصرا انتصارا كليّا لتلك الأفكار. وهذا ما سيبرز في كتابه المرجعيّ البديع "الحركة الأدبيّة والفكريّة في تونس".
ففي كتابه ذاك هو لا يشيد فقط بالدور الخطير الذي لعبه خير الدين في حركة الإصلاح والتحديث وإنّما هو يشيد أيضا بالشيوخ ورجال الدين الذين ساندوه فعلا وقولا وتحمّسوا لدعوته من أمثال الشيخ محمود قابادو (1812-1871) والشيخ سالم بوحاجب (1827-1923) والشيخ محمد بيرم الخامس (1840-1889).
الإصلاح والحداثة أولى أسس التجديد
والأمر الأساسيّ الذي يمكننا استخلاصه من كتاب "الحركة الأدبيّة والفكريّة" هو أن الشيخ محمد الفاضل بن عاشور كان يرى أنّ الإصلاحات التي كانت تدعو لها حركة الإصلاح والتحديث لا يمكن أن يتحقّق لها النجاح إلاّ بتضافر جهود رجال الدين والسياسة وأهل النخبة.
ومعنى هذا أن شيخنا الكبير كان يعتقد أن رجل الدين لا يمكن أن يعيش منعزلا عن حركة المجتمع ومقطوعا عن النضالات الدّاعية إلى تحقيق التقدّم والرّقي. من هنا نفهم إعجابه الشديد بالشيوخ الذين تميّزوا بمثل هذه الخصال، وهذه الصّفات وحاربوا التزمت والتحجّر والانغلاق من أمثال الشيخ ابراهيم الرياحي 1768-18509 الذي كان من أوّل الرافضين للدعوة السلفية المتشددة التي حاول أنصارها بثّها في البلاد في أواسط القرن الثامن عشر.
بل إن الشيخ الفاضل بن عاشور كان يقرّ بأن النخبة المتخرجة من "الصّادقيّة" كان لها الفضل الكبير في إشاعة الأفكار التحديثيّة في أوساط الطلبة الزيتونييّن.
الانفتاح الفعلي على الآخر
وخلافا لوالده الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي نذر حياته للبحث والتّأليف، خيّر الإبن أن يكون انتصاره للإصلاح والتحديث لا نظريّا فقط، بل عمليّا أيضا. لذلك لم يتردّد في المشاركة الجادّة في النّضال الاجتماعي والسياسي والثقافي منذ سنوات شبابه الأولى. وانطلاقا من عشرينات القرن الماضي، سوف نجده مشاركا في أهمّ النشاطات السياسيّة والثّقافيّة. كما سيعتلي المنابر الكبيرة مدافعا عن الأفكار الإصلاحيّة منتقدا المتخاذلين والمتزمّتين وأعداء الاجتهاد، منتصرا للحركات السياسيّة الجديدة مثل الحزب الحرّ الدستوري بزعامة الحبيب بورقيبة.
وكان الشيخ الفاضل بن عاشور من ضمن الشخصيّات الوطنيّة التي حضرت مؤتمر "ليلة القدر" الذي عقده الحزب المذكور في شهر أوت عام 1946 بعد فرار بورقيبة إلى الشرق. وعندما تمّ اعتقاله مع زعماء الحزب المذكور أظهر شجاعة الأبطال سواء في السجن المدني، أو أمام المحكمة العسكريّة. وكان "مفتي السجن والمسجونين". وكان "مرجعا لرجال الحزب ولكلّ واحد من رفقائه يستشيرونه في كلّ مشكلة تحدث فيشير ويستنيرون بذكائه وسعة اطّلاعه فينير، ويلتجئون إلى سداد رأيه فلا يتردّد، ولا يبخل بالفتوى". بل إنه دعا رفاقه في السجن إلى أن تكون صلاة عيد الفطر "مظاهرة احتجاج في وجه الطغيان".
وفي خريف عام 1946 أصبح الشيخ الفاضل بن عاشور عضوا بارزا في الديوان السياسي للحزب الحر الدستوري وفي نفس العام المذكور أيضا أي عام 1946، كان إلى جانب المناضل النقابي الكبير فرحات حشاد في الجلسة التي انعقدت بمقرّ "الجمعيّة الخلدونيّة" التي أسفرت عن تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل.
وعن ذلك كتب أبوزيّان السعدي يقول: "لقد كان الشيخ الفاضل بن عاشور في منحاه الإسلامي الذي تعامل به مع المشروع النقابي الوطني العتيد مستجيبا كل الاستجابة لتكوينه العلمي والفكري والثقافي المؤمن بأن الإسلام دين تطوّر واجتهاد وصالح لمعالجة قضايا المجتمع المتجدّدة من عصر إلى آخر. وبهذا المعنى فروح الإسلام تدعو إلى الإصلاح". وكان الشيخ الفاضل بن عاشور مناصرا لكلّ القضايا المتعلّقة بالحقّ وبالعدالة والحرية في العالم العربي-الإسلامي.
وفي أكثر من مناسبة رفع صوته عاليا للتنديد بالجرائم الاستعماريّة والعنصريّة التي ترتكب ضدّ العرب، وضدّ المسلمين في جميع أنحاء المعمورة. وعند تأسيس الجامعة العربيّة عام 1946 وبمباركة من الشيخ الفاضل بن عاشور، انتظم حفل كبير بحديقة "البلفدير" بتونس العاصمة حمل اسم "يوم العروبة". وقد حضرت ذلك الاحتفال شخصيّات سياسيّة وفكريّة بارزة مثل الزعيم صالح بن يوسف وعلي البلهوان، "زعيم الشباب" والمناضل التونسي -الجزائري محمد توفيق المدني.
ومؤمنا بأن الإسلام دين عمل وإصلاح وحضارة كان الشيخ الفاضل بن عاشور حريصا على المشاركة في كلّ المؤتمرات والتظاهرات الدينية والفكريّة والسياسية والثقافية التي تنعقد في مختلف بلدان العالم.
وفي جميع الكلمات والخطب التي كان يلقيها سواء في العاصم العربية أو الغربيّة كان يسلّط الأضواء على الجوانب المشرقة والإنسانيّة التي يتميّز بها الإسلام في معناه الحضاري العميق. وفي مؤتمر المستشرقين الذي انعقد في إسطنبول عام 1951، تحاور مع المفكرين والأكاديميين الغربيّين مظهرا علما غزيرا وفصاحة مدهشة وتسامحا فيّاضا وانفتاحا على مختلف ثقافات العالم.. لقد كان الشيخ الفاضل بن عاشور رمزا لرجل الدين المجتهد المتنوّر الرّافض للتعصّب، المؤمن بأن خلاص الشعوب المستضعفة لا يمكن أن يتحقّق إلاّ بالإصلاح، وبالاجتهاد بعيدا عن التحجّر. لذلك لم يتردّد طوال مسيرته في أن يكون في قلب حركة المجتمع التونسي فقيها متضلّعا في علوم الدين ومفكّرا واسع المعرفة، قادرا على الدفاع عن روح الإسلام المشرقة، ومناضلا سياسيّا ونقابيا فذّا لا يضعف البتّة أمام سياسة البطش والطغيان.
وعندما حصلت تونس على استقلالها عام 1956، ناصر الشيخ الفاضل بن عاشور كلّ اجراءات الإصلاح التي اتخذت لتحرير المرأة من قيود الماضي ولتعميم التعليم ولمواكبة التطوّر وحضارة العصر. من هنا يمكن اعتباره مرجعا أساسيّا في هذه الفترة العسيرة التي اختلط فيها الدين بالسياسية والسياسة بالدين، وتعددّت الفتن والمذاهب وكثرت فتاوي التحريم والتّكفير وتحوّل المشعوذون إلى فقهاء وتسربت أفكار المذاهب المتشدّدة إلى تونس لتفسد العقول والنفوس وتشيع الفرقة بين التونسييّن. فلعلّنا نجد في اجتهاداته وفي أطروحاته وفي القضايا المتعلّقة بشؤون الدنيا والدين ما ينير العقول ويفتح البصائر ويعيد الطمأنينة للقلوب والنفوس.