"الشهود".. مسرحية فرنسية تحذّر من تتويج رئيس متطرف

المسرحية تسلّط الضوء على هشاشة النظم الديمقراطية، محذّرة من تنامي صعود الشعبويين إلى سدّة الحكم.
الاثنين 2021/10/18
طرح صادم لمجموعة من القضايا السياسية الحارقة

ما مصير دولة القانون والمؤسسات إذا ما استولى على السلطة سياسي ينتمي إلى اليمين المتطرف؟ ذلك ما تحاول الإجابة عنه مسرحية “الشهود” التي تعرض على خشبة “ليزابيس” بباريس، وقد كتبها وأخرجها الفرنسي يان روزو.

من العروض التي تعالج الوضع الفرنسي الراهن، دون ذكره بالاسم، مسرحية “الشهود” (لي تيموان)، وهو عنوان صحيفة مستقلة، لا يجادل في التزامها بأخلاقيات المهنة أحد، ولكن عندما يفوز مرشح اليمين المتطرف توماس ميرنديان في الانتخابات الرئاسية، يختلف صحافيو التحرير حول أي السبل يختارون.

منهم من يعتبر أن ما أفرزته الصناديق إنما هو تعبير عن إرادة الأغلبية، وتلك قواعد اللعبة الديمقراطية، ولا مناص من قبول نتائجها ولو على مضض، في انتظار الانتخابات المقبلة. ومنهم من يرفض مهادنة رجل عنصري متطرف ينبئ خطابه بأن البلاد في عهده سوف تشهد كوارث في شتى المجالات.

غير أنهم سرعان ما يكتشفون أن الريح تغيّرت وجهتها فعلا، وأنهم صاروا العدوّ الذي ينبغي القضاء عليه، لمجرد أنهم يُحسبون على اليسار، فلم يبق أمامهم إلاّ الصراع ضد تسلط النظام الجديد كي يحافظوا على خطهم التحريري، ويلتزموا بنبل رسالتهم.

ولكن دون الدخول في حرب مباشرة ضدّ الحكام الجدد، حيث تحاول كاترين، مساعدة رئيس التحرير، أن تحافظ على وحدة فريقها الذي يكاد يتفجّر تحت الضغط، مع مواصلة الريبورتاجات الاستقصائية، ومراكمة الملفات التي تدين بعض رموز النظام الجديد، خاصة بعد أن اكتشف أحد صحافييها، سيريل، مشروع عمل إرهابي أعدّته مجموعة إيكولوجية، بينما ساور صحافيّا آخر، هو حسن، شكّ في قيام بلد صديق بتصفية عميل فرنسي.

ولما كانت مصادره ضعيفة فقد عدل عن نشر التحليل الإخباري كي لا تكون مقالته سببا في توتير العلاقات بين البلدين. أما ريبيكا فقد كشفت عن عملية جوسسة اقتصادية ضخمة بطلها أحد مقربي الرئيس الجديد، فيما اكتشف رومان بوادر مقاومة مسلحة، وبات الجميع يخشون انقلابا عسكريا.

والأسئلة التي تطرحها المسرحية هي: أولا، كيف يمكن لصحيفة لها تأثيرها في المشهد الإعلامي والسياسي، أقامت شهرتها على خط تحريري واضح: لا مجال للآراء، بل لنقل الأحداث والوقائع بالدليل الملموس، أن تتعامل مع وضع جديد يديره رئيس من اليمين المتطرف؟

ثانيا، كيف يمكن لشعب يعيش تحت نظام ديمقراطي أن يقبل بإلغاء دستور بلاده وقوانينها وخنق حرياته، من قبل شخص ليس له من زاد سياسي غير الخطب الرنانة عن مستقبل جميل بما فيه الكفاية؟

عالم ديستوبي ينذر بكابوس جهنمي
عالم ديستوبي ينذر بكابوس جهنمي

ثالثا، كيف تستطيع الديمقراطيات أن تحمي نفسها من مثل هذه الانتكاسات، كي لا ترضخ لحكم فردي بيد شخص مريض أو مستهتر أو عنصري يقود البلاد والعباد إلى الدمار، كما فعل هتلر؟

ويان روزو مخرج وكاتب المسرحية يطرح تلك الرهانات المعقدة دون مواربة، ويتناولها بشكل مشوّق، ونسق حثيث، ولغة متوتّرة بعيدة عن الخطاب المباشر، ليضع الإصبع على هشاشة النظم الديمقراطية، حيث يكفي أن يصل إلى سدّة الحكم سياسي متطرف، يستعين بأغلبية برلمانية كي يلغي القوانين المعمول بها ويسنّ قوانين جديدة وفق رؤية مخصوصة، ليشبع نزعته الاستبدادية، ويلبّي مطامع أتباعه، لتتحوّل دولة القانون والمؤسسات إلى دولة رعب، خاضعة لأهواء فرد منغلق وأطماع زمرته.

وقد تجنّب المؤلف بحذق الكليشيهات الجاهزة والثنائية المانوية ليأخذ المتفرّج إلى عالم ديستوبي، لا يلوح في أفقه غير كابوس جهنمي، موحيا أن ذلك يمكن أن يحدث في وقت قريب في فرنسا، بدءا برئاسيات الربيع المقبل، مع صعود صحافي يهودي عنصري، يدعى إريك زيمور، يعادي العرب والمسلمين جهارا، ويلقى الحفاوة في وسائل الإعلام اليمينية، من لوفيغارو، وفالور أكتويال، إلى سي نيوز، وبي إف إم تي في، دون أن تتصدّى له النيابة العمومية برغم وجود أحكام في القانون الفرنسي تخوّل لها محاكمته ومنعه من الترشّح لأي انتخابات لمدة لا تقل عن خمس سنوات، وحتى سجنه.

والمسرحية، وإن كانت ديستوبية تحذّر من خطر ممكن حدوثه، تتناوله من منظور مؤسسة صحافية كرمز للسلطة الرابعة؛ حيث ينزل الخبر على “لي تيموان” مثل تسونامي يرجّ كل قائم وينذر بتدميره نهائيا، كي يحل محله عالم جديد قوامه الشوفينية والعنصرية وتغذية الكراهية ومعاداة الأجانب والدعوة إلى استعمال كل الوسائل، بما فيها العنف، لطردهم.

وقد صاغها روزو، تأليفا وإخراجا، بفنية عالية، وبلغة خالية من الثرثرة، فأشاد بها كل النقاد، ودعوا صراحة كل عشاق المسرح إلى مشاهدتها، خصوصا أنها “جاءت في وقتها”، أي أنها تتحدّث عن حدث لم يعد محض خيال استشرافي، بل بات خطرا وشيكا يطرق أبواب فرنسا.

وبعد “سقوط أمّة” التي فازت بجائزة بومارشي لأحسن مؤلف عام 2011، و”سيدي الرئيس”، و”أقوياء وبؤساء”، يثبت روزو أنّه من طينة الكتاب المتميزين، الذين لا يتنكّبون عن مساءلة الواقع الراهن بذكاء وفنية عالية، لدعوة المتلقي إلى التفكير بعمق في ما يخصّ مستقبله ومستقبل بلاده، لاسيما في هذه المرحلة التي شهدت صعود يمينيين شعبويين أمثال ترامب في أميركا، وبولسونارو في البرازيل، وأوربان في المجر وأردوغان في تركيا.. والقائمة مفتوحة، للأسف.

14