الشنطة فيها رسائل حب

هجوم كاسح حققته الأغاني الشعبية الليبية المعروفة بالمرسكاوي على دول الجوار ومنها تونس، وأخيرا لاحظت أن حتى أغاني “الزمزامات” بدأت تحقق رواجا بين الأطفال التونسيين، وهي أغان تؤديها فنانات شعبيات في حفلات الأعراس المخصصة للنساء، وعادة ما تكون هابطة وساخنة وراقصة وتحمل معاني جريئة كما ورد في أغنية فاطمة الطرابلسية المعروفة فنيا باسم فاطمة الحمصة، التي تقود كلماتها: “نمشيله متضايقة.. نروّح من عنده رايقة” (وبترجمة الأفلام الأجنبية: أذهب إليه وأنا في حالة ضيق، لأعود من عنده وأنا في غاية السعادة)، وتقول في ذات الأغنية في إشارة إلى صديقها: “نبيه يجيني في داري (أريده أن يزورني في بيتي) حتى قدام صغاري (ولو أمام أطفالي)”، وبذلك تتجاوز الخطوط الحمر في مجتمع يريد المحافظة على صورته كمجتمع محافظ غير قابل للاختراق.
في أواخر يناير الماضي جرى اعتقال الحمصة من قبل جهاز دعم الاستقرار الذي قال إن الإدارات المختصة في الجهاز ضبطتها لارتكابها “جريمة خدش الحياء”، وتابع في بيان أن اعتقال المغنية جاء للمحافظة على “الأخلاق الحميدة التي تميز المجتمع الليبي، وعلى خلفية المقطع المرئي الخادش للحياء العام والذي تم تداوله”، مؤكدا أنه “سيقف سدا منيعا ويضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه المساس بأخلاق وقيم المجتمع الليبي”.
ولا أدري إن كانت ظاهرة الأغاني الجريئة قد انتهت باعتقال “الحمصة”، لاسيما أنها جزء مهم من الثقافة الشعبية في كل المجتمعات تقريبا، وتقوم بتصوير المسكوت عنه في إطار ضيق، ولا يمكن فصله عن المجتمع النسوي في حميميته المغلقة أبوابها على تطفل الذكور. ولولا لقطة مصورة عبر هاتف جوال تم تهريبه إلى حفلة العرس ما كان لأحد أن ينقل إلى خارج الصالة ما تغنيه “الحمصة” أو غيرها. لذلك فإن مشرفات التنظيم يتشددن في منع إدخال الموبايلات الذكية إلى السهرات النسوية، والموضوع لا يتعلق بالمجتمعات العربية والإسلامية فقط وإنما يشمل المجتمعات الغربية كذلك تلافيا للمشاكل التي قد تنجر عن أيّ تصرف طائش .
ومنذ أيام، كنت أستمع إلى عدد من الأطفال وهم ينشدون مقاطع غنائية متتالية من عالم “الزمزامات” وصولا إلى مقطع يقول “الشنطة ما فيهاش كتب، الشنطة فيها رسائل حب”، وقد أدركت عندئذ أن الأمر يحتاج إلى إعادة قراءة للواقع الفني والثقافي، فنحن اليوم لم نعد ننتج أغاني للأطفال بأصوات الكبار أو الصغار أو بالاشتراك بينهما، وإنما نكتفي بالأناشيد التعليمية التي لا تخلو من سذاجة المضمون ورتابة الإيقاع، كما لم تعد لنا أغان شعبية محترمة تنبض بروح المجتمع ولا أغان عاطفية خفيفة بمعان راقية، وحتى الأغاني الوطنية يبدو أنها دفنت مع عصر الدكتاتوريات المزعومة، ولذلك لم يعد غريبا أن يخرج عليك ابنك الصغير من غرفته وهو يدندن بأغنية أحمد سعد، “اختياراتي دمرت حياتي” دون أن يفهم ما هي تلك الخيارات، وما هي علاقة الجمهور العربي بقصص زيجات وطلاقات الفنان، كزيجته التي لم تستمر سوى ستة أيام فقط .
المشكلة، أن الأمور تداخلت إلى الحد الذي أصبحت فيه أغاني الصالات المغلقة تخرج إلى الشارع لتصل إلى الأطفال وتردد على ألسنتهم، وأغاني الدمار العاطفي لهذا الفنان أو ذلك، باتت بدورها تقفز من يوتيوب إلى أسماع الصغار لتحتلها بما تحمله من معان ومشاعر سلبية علينا أن نجد طريقة مجدية لنقي أطفالنا منها.