الشعر صانع اللغة
يحلو للبعض التحسر على الزمن الذي كان فيه الشعر “صوت من لا صوت له”، مكررا ما يستسهله البعض من كلام حول طغيان الأجناس الإبداعية الأخرى كالرواية والدراما التلفزيونية.
في الواقع، شخصيا، لم أكن حاضرا عندما كان الشعر صوت من لا صوت له، ولا أثق في كتابات النقاد، ولكن ما أعرفه أن الشعر لم يعد هو نفسه الذي يتحدثون عنه، ويتحسرون على تراجعه.
ثمة كيان اسمه الشعر، ولكن لا يجوز أن نثبت لقطة زمنية له ثم نتحسر عليها، ما كتبه شعراء الخمسينات مثلا لم يعد شعرا في عصرنا، المقالة الصحافية اليوم أكثر شاعرية منه، هذا من باب المبالغة. قد يكون الشعر اليوم في الرواية مثلا، فهل ظلت الرواية العربية على حالها كما كتبها روادها الأوائل سواء أكانوا مصريين أم لبنانيين؟ أبدا، مسّتها نار الشعر فنضجت، وهو ما حدث مع الدراما التلفزيونية والسينما، حتى الصورة فقد قبست من نور الشعر ما قد يمنحها الخلود.
الكائن الحقيقي المسمى شعرا يولد في كل عصر فيكون مناسبا لعصره، وينمو في نفوس الناس فترقى النفوس درجات تطلب معها المزيد منه فينمو بدوره ويتطور، وإلا سقط في مساحة الأرشيف والتأريخ، ولا يبقى إلا ما نجح في ملامسة المشترك الإنساني بصياغة خاصة وفريدة، تلك هي الجمرة التي لا تبرد مع الأيام وتظل مصدرا للطاقة الإبداعية في كل زمان.
خارج الشعر نحاول أن نتوافق على أسماء الأشياء ومعاني الكلمات، اللغة خارج الشعر «كتالوجية» مهمتها تأسيس ذلك، لأن مسعى اللغة أو هدفها في الشارع، وفي الإعلام، وفي المستشفى، وفي قسم الشرطة، وعلى غلاف المنتجات التجارية، أن تنقل إليك ما يريده منك الآخرون حتى لا يحدث خلاف أو نزاع أو خطأ. أما الشعر فيسعى إلى عكس ذلك، يدعوك إلى أن تفكر في احتمالات جديدة ودلالات أرقى، إنه يسعى إلى تخليص المفردة من أسرها القاتل، وإطلاق أسر العقول ممّا اعتادت عليه من استقبال للمحنط من الأفكار والكلمات، هنا يصبح الشعر لغة من لا لغة له، لأنه لا يضطرهم إلى الكتالوج الذي يمجده البشر في يومهم العادي، إنما يقول لهم امرحوا في هذا الحقل الوسيع وافهموا وقوموا بالتأويل تعودوا من هناك بشرا مختلفين.
الشعراء الحقيقيون هم هؤلاء القلة الذين أدركوا أن اللغة في الشعر ليست لغة الكتالوج، فنحتوا لغاتهم الخاصة، وهو ما يظل الشعراء يبحثون عنه ويجربون ويقرأون متشككين في علاقتهم باللغة، لأنهم يرونها بشكل مختلف، هذا الاختلاف يقود إلى طرق تعبير وصياغات مختلفة تصنع لغة مختلفة تنتظر من يراها بعين مختلفة لترقى أكثر، وهكذا تنمو الذائقة وتنمو اللغة.
في الشعر، ذات الشاعر هي كل العالم، فإذا كان بالأساس لا شيء في العالم مُتفق عليه فمن الأحرى أن يعبر الإنسان عن الأشياء وفق ما يراها هو، وفق ثقافته ومعارفه ورؤاه وأحلامه ومفاهيمه واعتقاداته، لا وفق ما يدّعي الآخرون، وإلا أصبح أيّ شيء خارج نطاق شاعر. لذا كانت الإضافة رهان الشعر الأول، وليست الرهان الأول للرواية أو السرد أو الدراما.
«الشعر» هو الشكل الأكثر تجريدا لكل فنون الكلمة، إذا فككتَ التجريد وتلاعبت به صنعت أشكالا إبداعية أخرى بداية من القصة والرواية والمسرح، إلخ. مادة الكتابة الخام هي الكلمة، يحاول المبدع أن يفك أسرها ليعيد تقديمها باحتمالات أكثر حرية، فتترك أثرا أبقى وأكثر عونا على التفكير، هذا التفكيك وإعادة التشكيل حقل الشعر الأول، وليس الحقل الأول للرواية أو السرد. لم يختف الشعر ولم يتراجع، إنما لم يعد هو الشعر الذي يصرون على التوقف عنده، إذ المصطلحات تشبه مقابض الأبواب، وليست كل الأبواب تؤدّي إلى الأماكن نفسها، فهل ينبغي أن يظل الشعر على النموذج الذي كتبه القدماء أو الرواد؟ ثمة استسهال شديد في حياتنا الآن، نضع أنموذجا لكل شيء، ونقيس عليه كل ما يأتي بعده دون اعتبار لجمالياته الخاصة، ثم نصرخ: لم يعد لدينا من هذا. وننشغل بالبحث عن السبب، ونجتهد في تدريس طرق تنفيذ النموذج وندور حوله كالكعبة، بينما نماذج أخرى كثيرة تستحق الانتباه تموت مختنقة بأنفاسنا.
شاعر من مصر مقيم في الإمارات