الشعر آخر حصون الوجدان الإنساني

الشاعر علاء زريفة اختار أن يكتب لإزالة آثار الوحل الجمعي ولتعزيز الحضور الإنساني في غياب أي قيمة حقيقية للإنسان اليوم.
.
الاثنين 2019/08/05
الشعر يبقى آخر حصون الفردية

تحضر ثنائية الحياة والموت كإشكالية فلسفية أصيلة في الإبداع الأدبي على مستوى العالم، لكنها في ظل واقع متدهور وحرب تأتي على الأخضر واليابس تصير أكثر حضورا وتنوعا، وهو ما يظهر في جل الإبداع السوري الراهن باختلاف أشكاله وبتبايُن مواقف مبدعيه. “العرب” حاورت الشاعر السوري الشاب علاء زريفة حول مجموعته الشعرية “شوكولا” الصادرة حديثا، متطرقة لأسئلة الكتابة في ظل الخراب السوري.

يأتي الحديث في المجموعة الشعرية “شوكولا” للشاعر السوري علاء زريفة عن الحب كحالة من المقاومة للموت في ظل الحرب السوريّة. يُبين الشاعر السوري أنه بدءا من العنوان الذي يعتبر عتبة لقراءة أي نص أدبي شعرا كان أم نثرا، يمكن اعتبار “شوكولا” إشارة إلى ألوان العبودية والاسترقاق في ظل حقبة استعمارية ليست ببعيدة عنا، والتي لم تستطع قوى هذا الاستعمار (الإسباني وما تلاه) تذويبه، أو هي كطعم اللذة بشكلها الحر والفردي المُعبّر عن ذات حالمة بواقع مختلف مغاير بعيدا عن أصوات المدافع وأزير الرصاص وقذائف الهاون ومفخخات الهوية التقسيمية المتشظية طولا وعرضا في بلد دمرته ولا تزال آلة الحرب بكل همجيتها وقصديتها، فالحرب في “شوكولا” أدب وحلم يقظة، والإنسان جزء من تموضع ينشد وعيه الخاص خارج هذا الصراع الدموي الرهيب.

ثنائية التكوين

وفق ذلك، سيصير الحب بمعناه الفضفاض جزءا من مخلفات الحرب، الحب في “شوكولا” عودة لوجه متعب محقون بالقهر تكسوه الأتربة ووحل الطريق الطويل ساعيا نحو وطن واحد ربما يبعث يوما، “شوكولا” تحاور الأنثى الفكرة التي كانت واقعا مؤلما وعاشقا شغوفا لا يزال ينتظر ويريد الخروج حيا ببقاياه من موت بطيء، هذا الموت بصيغته العاشقة ثوري لأنه يمثل طموح الفرد بمواطنته الحقة، فما عاد يموت المواطن لأنه مذنب، لكنه في حاجة للموت ليؤكد ذاته كمواطن، ومن خلال (اختفائه في الموت يولد المواطن كحرية) كما يقول المفكر الفرنسي بلانشو.

تمجيد فكرة الشهادة في سبيل الوطن
تمجيد فكرة الشهادة في سبيل الوطن

في الديوان ذاته تحضر المرأة كوطن “ماذا فعلت بك الحرب يا أمي.. لو كنت حيا لعدت.. يا أمي”.. ويلفت علاء زريفة إلى أنه لا يمكن للمرأة أن تكون إلا وطنا، ونستطيع من خلال استقراء الأدب قديمه وحديثه أن نجد دائما ذلك الكاتب أو الكاتبة الذي أصابه عطب الحب، وبلغ منه جنونه مبلغا عظيما، نجد “ريتا” حاضرة كدمعة ساخنة في كل قصائد درويش، نجد شظايا جسد بلقيس مزروعة في شعرية نزار قباني، وظلال ميلينا في تهويمات البؤس الأنطولوجي لدى كافكا، حبيبات كُثُر مررن على أجساد شعراء وكتاب لتكون أزهار بودلير، وتجليات القبح الجميل لدى آرثر رامبو.

في “شوكولا” تحضر المرأة كملاذ وحلم بعيد المنال، سعيٌ دائم لملامسة تلك البشرة الملتهبة بالرغبة والضفائر المشغولة بخيوط الشمس، وأيضا تمثل طبيعة ثنائية التكوين، كما يرى الشاعر، فهي عنده ليست غير ذات الشاعر-الإنسان الذي استطاع إدراك وجوده للحظة في ذات أخرى كأنه هو. أنظر إليها كإنسان بعيدا عن الرؤية الاجتماعية الخارجة من عفن الموروث والتقليد الديني السمج الذي يراها كضلع قاصر، أو كملحق بذكر متحكم منحه سلطة الجندر تفويضا أبديا بامتلاكها ولذلك أسعى من خلال إيماني بها كإنسان إلى تحريرها والدفع بها نحو هذه الحرية.

يرى زريفة أن الكتابة هي حالة تعبير قصوى عن إنسانيتنا، ربما هي “الحياة الوحيدة المعيشة” كما يقول بروست، فلطالما شغلته في البدايات أسئلة الوجود والمصير، معنى أن نحيا وأن نموت، مسائل الكنه والرغبة والجدوى بما نحاوله خلال عمر نقضيه سريعا ونحن نتجاوز عتبات البراءة والنضج والشهوات واللذة وسواها سعيا نحو السعادة كقيمة حية غير مكتملة.

ويتابع “الحرب، الثورة، الأزمة، مسميات عديدة مختلف عليها اليوم في سوريا ولا أجد نفسي في أي واحدة.. هي كارثة إنسانية محضة، يجب التعبير عنها كما هي لأن من يموت فيها كأي توحش آخر في أي مكان في العالم وقعت فيه حالة متشابهة هو الإنسان، ولذلك رهنت قلمي دفاعا جريئا متمردا على بواعثها الميتافيزيقية واليومية المحسوسة عن هذا الإنسان فحسب. ولا أريد لقلمي أن يكون ‘تطهيريا‘ بالمعنى الأرسطوي أو انفعالا تسجيلا لمصير مأساوي لبطل تراجيدي، بل التطهير الذي ينجم عن مشاهدة العنف يشكل عملية تنقية وتفريغ لشحنة العنف الموجودة مما يحرره من أهوائه ويبث فيه روح التغيير الواعي الذي يعززه الحضور الجمعي لذوات متعددة حرة”.

الموروث الثقافي

“المسيح الصغير” هو عنوان الديوان الشعري الأول لزريفة، يشير إلى أنه يمثل تجربته الأولى الجدية كشاعر، وقد تم اختيار العنوان لتمجيد فكرة الشهادة في سبيل الوطن، الموت المخلص الذي يحمل آثام الجمع المتقاتل، والهم الوطني ينسحب على كل نصوص الديوان في إشكالية دقيقة ألا وهي الحرب. ومن جهة أخرى، هو أيضا محاولة لسبر أغوار الوعي الديني والموروث الثقافي لمجتمع وجد نفسه أمام مرآة واقعه، الحزن والفجيعة والهزيمة الجماعية تمكث في خطوط تاريخه العريض، محاولة للمناقشة والتعليل من خلال إنسان هذه الحرب، الذي يرى الحرب تمر أمام عينيه وتدخل تحت جلده، القسوة بأشد صورها والموت لأسباب مختلفة للعقل الواعي الناضج، “المسيح الصغير” صوت الصدمة والدهشة من فعل التخريب وإعادة إنتاجه يوميا في ظل غياب لأي وجود حر خارج القوقعة.

في المجموعة الشعرية تحضر المرأة كملاذ وحلم بعيد المنال
في المجموعة الشعرية تحضر المرأة كملاذ وحلم بعيد المنال

يعتقد زريفة بأن الكتابة في العالم العربي أشبه بعملية ممانعة مستمرة ودائمة ضد الرقابة، فالمبدع العربي يكتب وهو يعلم أن هناك مسدسا مصوبا إلى رأسه، فالتابو أو الخط الأحمر موجود دائما والمحرم بشكله السياسي والديني والفكري حاضر، رغم أنه يتم تجاوزه لأغراض الدعاية السياسية المارقة التي تأخذ طابع التنفيس والتهريج في بعض الأحيان كالذي نشاهده في الكوميديا والدراما غالبا. هذا النقد الذي لا يتجاوز الرمز المقدس كفكر اجتماعي صرف والذي يراعي حدوده الرقابية ويتلمس حائط سترته.

ويضيف “الرقيب الداخلي لديّ غير موجود فمعظم قصائدي وكتاباتي تتسم بالجرأة والتهكم الساخر من الواقع والتجاوز الدائم للتابو، والمحرم يأخذ لدي شكلا مغايرا تماما عن السائد عرفيا في المشهد الثقافي العربي الذي ينحو نحو الطبطبة والرقص الثقافي والتدجين وتضخيم الطوطم بالمعنى الدقيق للكلمة. أعتبر نصي انتحاريا فأنا أمارس الكتابة كفعل موت كامل”.

ويشير الشاعر السوري إلى أن الشعر يبقى آخر حصون الفردية في عالم يسير نحو التشيؤ في كلّ شيء. ويبقى الشعر طريقا للتعبير عن ذات متمردة على هذا العالم هدفها تحقيق سلامها الداخلي في إطار تجارب شعرية خاصة تحاول أن تلتمس في ظلمة الواقع هذا البصيص في زمن الحداثة المائعة أو السائلة كما يصفها زيجمونت باومان.

فهو يكتب لتعزيز الحضور الإنساني في غياب أي قيمة حقيقية للإنسان السوري، لإزالة آثار هذا الوحل الجمعي الذي أودى بنا إلى هوة سحيقة من الضمور والعبثية والفساد والعمالة مع أعدائنا الحقيقيين، ضد التنميط والابتذال رافضا كل أشكال التمثل لأخلاقيات شائنة يصنعها الطفيليون وأصحاب الرساميل والمكاسب على حساب الضعفاء والفقراء الشهداء، وينتصر لهؤلاء، وسيثبت الزمن لاحقا صوابية هذا الخيار المترجم للألم والقهر الذي يعانيه الإنسان العربي السوري حاليا.

15