الشرقيون وثقافات الجوار
صرف العرب القرن العشرين متطلعين نحو الغرب مسحورين به بوصفه المكان العالي الذي تلوى له الأعناق لتطاله الأبصار، فهو أرض كلّ ما هو عصري وخالبٍ للب، وموئل لكل جديد، فهو متقدم وحديث وحداثي، وفي الجملة باهرٌ وعجيب.
وعلى رغم الويلات التي أنزلها الغرب بالعرب: حرب الجزائر - مليون ونصف المليون شهيد، حروب مملكة إسرائيل (بوصفها مستوطنة غربية): نصف مليون ضحية في حروب ومجازر متعاقبة على مدار سبعين عاماً. الحرب العراقية الإيرانية (بوصفها حرباً غربية بالوكالة للسيطرة على الحراك الإجتماعي والسياسي في المنطقة) أكثر من مليون ضحية. حرب عاصفة الصحراء (بوصفها وقيعة جهنمية بالعرب لإحكام القبضة الغربية على ثرواتهم واقتصاديات بلادهم في إطار ما يسمى بالنظام العالمي– العولمي) مئات آلاف القتلى والأسرى والمفقودين. وأخيرا الحرب الدموية التي تشنها إيران واستطالاتها السورية واللبنانية والعراقية في المنطقة على الشعب السوري، وبين هذه وتلك من الحروب التي هي، في كل مرة، تخريجات إقليمية لنزاع دولي وتصميمات خاصة بالهيمنة على العالم، عشرات النزاعات الحدودية في ما بين الدول العربية نفسها، والدول العربية ودول الجوار، وفي كل مرة أسباب مركّبة تتداخل فيها مصالح الأقوياء بمصالح نظم الحكم في المنطقة، لتتصل كلها في النهاية بالترتيبات التي أخذ الغرب يجريها على خارطة العالم غداة سقوط إمبراطورية المعسكر الاشتراكي، وقد طالت هذه الترتيبات الفسيفساء العربي _ الشرقي تحت مسمياته المختلفة: الشرق الأوسط، الشرق الأدنى، المشرق العربي...إلخ، وهذه منطقة تعتبر بكل المقاييس القطعة الأشهى من قالب الحلوى العالمي، وقد سال له مؤخراً لعاب روسيا المتعملقة.
***
صرف العرب، وصرفت نخبتهم المثقفة، مدنية وعسكرية، القرن العشرين بأكمله وهم في انشداد لا عاصم له نحو الغرب، في الوقت نفسه، ومن دون تفكير جدّي بحقائق الجيوبولتيك التي عادة ما تصنع الأقدار وتحدد مصائر الشعوب في علاقاتها التجاورية، عَبَرَ العربُ، في رحلة انشدادهم نحو الغرب، على جوارهم القريب، وأغفلوا الأسئلة الكبرى المتعلقة بامتدادهم الحضاري، فانقضى القرن العشرون بسنواته المائة المديدة وعقدا من القرن الواحد والعشرين، من دون أن يمثل لهم الجوار الثقافي والحضاري أي ذخيرة أو قوة يمكن أن تؤثر في وزنهم النوعي كأمة طالما كانت قادرة على استدخال عناصر التنوع في مكوناتها الحضارية، فبدوا كما لو أنهم ليس في حسبانهم ما لثقافات الجوار التركية والهندية والإيرانية (بمكوناتها العرقية المتعددة) من صلات قربى فاعلة ومؤثرة عبر التاريخ في ثقافتهم، فكأن المشترك الحضاري الضارب في القدم لم يعد له وجود خصوصاً مع ما آلت إليه الجغرافيا العربية في مرتسمها الجديد المعد في غرفة العمليات المشتركة للسيّدين النافذين البريطاني سايكس والفرنسي بيكو، من تفتت أحال أجزاءها إلى كيانات هي عبارة عن عزلات متجاورة.
وإذا كان قيام الدولة القطرية العربية قد تزامن مع قيام دولة إسرائيل، فإن السؤال الذي لا يمكن تجنب طرحه هو: هل كان هذا التزامن محض مصادفة ساخرة؟! وهل إن تقطّع أوصال العلاقات الثقافية العربية مع الجوار، والبلى الذي أصاب النسيج المشترك بين الشرقيين لصالح العلاقة المريضة لكل من العرب والترك والفرس بالغرب هو محض مصادفة أيضاً، أم أنه صورة من صورة الضرورات التاريخية الحمقاء؟
لطالما كان للأدب العربي والثقافة العربية تفاعلات عليا مع الثقافات الشرقية، ولطالما كان للشرقيين من غير العرب أدوارهم المؤثرة في المنجز الحضاري للإسلام، وفي الثقافة العربية نفسها التي وهبوها بعض ألمع مفكريها وعلمائها ولغوييها ومناطقتها وأطبائها ومتصوّفيها. فالمساهمة غير العربية لشعوب الجوار وثقافاتها في الحضارة العربية أوسع من أن يحاط بها. وكما يعرف الطلاب العرب في المراحل الدراسية الأولى فإن شخصيات مثل الخوارزمي وابن سينا والبيروني والبخاري وسيبويه والأصفهاني، والسهروردي، وغيرهم مئات من الأعلام، هم مثقفو الجوار الذين برزوا في واجهة الحضارة العربية – الإسلامية في عز انفتاحها على الجوار، وتبوأوا المقاعد الأولى في المركز الحضاري، فباتوا أقطاب العلم والفن والفكر على مدار العصور، ولم يعد في الإمكان فصل وجودهم عن وجود هذه الحضارة. ومن منجزات هؤلاء وآثارهم، يمكننا أن نلحظ ببساطة كيف أن حضورهم المؤثر لم يقتصر على علوم الفقه واللغة والجبر والهندسة والطب، وإنما تعداها إلى الرؤى الفلسفية والجغرافيا وأدب الرحلة، فطريق المعرفة طالما كان نفسه طريق التجارة القديم، فشعوب أفغانستان وإيران وتركيا طالما كانت تقع بلادهم على هذه الطريق، فهي حلقة وصل كبرى بين العرب والصين والعرب وباقي الشعوب الآسيوية. ولنا أن نتخيل، الآن، الزمن الذي ازدهرت فيه طريق الحرير المارّة، بالضرورة، عبر هذه البلدان.والسؤال الآن، لماذا أشاح العرب، وكذلك فعل الشرقيون، بوجوههم عن عوالمهم الثرية التي شكلت معا المختبر الحضاري للمسلمين وباتوا، مرة واحدة، وكل على حدة، أسرى العلاقة المأسوية مع الغرب؟
متى حدث ذلك، وما هي أسبابه الأكثر جوهرية؟ كيف حدث أن استسلمت النخب الشرقية المثقفة طوال القرن العشرين لتيارات التغريب (التوجه غربا)؟ وما هي العوامل الحاسمة التي جعلت لهذه التيارات العجيبة القدرة على الهيمنة على الفكر والوجدان الشرقيين؟ وما علاقة كل هذا بانخطاف المثقف في هذه البلدان بعيداً عن مشروعه الخاص الداعي إلى الأخذ بالتطور، والمنادي بالتغيير، ليصبح، بدلاً من ذلك، جزءاً من مشروع الدولة الخائفة من جوارها، المكتفية بحدودها، تتعلل تارة بحاجتها إلى حماية ثرواتها الوطنية، وأخرى بمشروعها الاستقلالي المزعوم، بينما هي في كل الحالات أسيرة الغرب وفي دائرة ابتزازه التي لا تكف ماكنتها العملاقة عن إعادة إنتاج نفسها في صور جديدة طاغية.