"الشرافي" صيد في جزيرة قرقنة التونسية ضارب في التاريخ

الشرفية وسيلة صيد تقليدية يتم بناؤها بسعف النخيل وفق خطة مدروسة وهي من أقدم وسائل الصيد البحري التقليدي التي اشتهرت بها جزيرة قرقنة منذ عهود.
الثلاثاء 2020/08/25
سمك الشرافي بطعم مختلف

تمتاز جزيرة قرقنة عن غيرها من الجزر والسواحل التونسية بامتلاك أهاليها للبحر ملكية خاصة، تماما كما يمتلكون الأراضي والمنازل على البر. كما تمتاز الجزيرة بمصائد السمك الثابتة التي يصنعونها من جريد النخيل وتسمى “الشرافي”، لكن هذه المصائد مهددة بالاندثار رغم تقديم السلطات التونسية لهذا التراث إلى اليونسكو لإدراجه على لائحة التراث العالمي.

قرقنة (تونس)- صيد “الشرافي” في جزيرة قرقنة التونسية في الجنوب الشرقي ليس مجرّد تقنية تقليدية لصيد سمك ذي جودة رفيعة، بل يتجاوز ذلك ليعتبر موروثا ثقافيا ضاربا في عمق تاريخ الجزيرة، وميزة تطبع المنطقة التي لا يتوانى أهاليها عن التعبير عن ارتباطهم بهذا التراث إلى حدّ التغني به.

ويطلق اسم “الشرفية” على كل المصائد الثابتة؛ يقول البحار المختص في صيد الشرافي، محمد يحيى، “يتم بناء الشرفية بسعف النخيل وفق خطة مدروسة ومحكمة يشرف عليها ربّان ذو خبرة عالية ودقيقة باتجاه الريح والأمواج ووجهة الأسماك عند المد والجزر، وتقوم أساسا على تهيئة مسالك ومساحات يحدها من الجانبين سياج من جريد النخل المغروس في عمق بحر الجزيرة الذي يعرف بقصره”.

ويتبع السمك جانبي سياج الجريد الذي يعرف لدى البحارة بـ”الرجل”، يدفعه في ذلك تيار الريح أو ما يعرف في قاموس البحارة بـ”الكرينتي” حتى يدخل بهدوء في حلقة كبيرة تسمى لدى البحارة “الدار”، ومن ثمة يجد السمك نفسه مجبرا على الوقوع في الفخ أو ما يعرف بـ”الدرينة” المصنوعة من السعف المستخرج من النخيل ليقضي داخلها 24 ساعة دون أن يأكل شيئا، وإثر طلوع شمس اليوم الموالي يتم رفع الأسماك داخل الدرينة من قبل البحار وعادة ما تكون أمعاؤها خالية من الأوساخ مما يجعل مذاقها لذيذا ومتميزا والإقبال عليها كثيفا.

والشرفية نسبة إلى شرف العائلة المالكة وشرف الوسيلة التقليدية في الصيد البحري، أمّا تاريخيا فتعدّ الشرافي من أقدم وسائل الصيد البحري التقليدي القار التي اشتهرت بها الجزيرة منذ عهود. وتعود هذه الطريقة في الصيد، حسب بعض الوثائق التاريخية، إلى العهد البونيقي في حين ظهر مصطلح الشرفية في القرن الـ17 مع ظهور عقود الملكية البحرية الخاصة في عهد الباي الحسيني سنة 1670، وفق ما أوضحه لـوكالة تونس أفريقيا للأنباء (وات) الباحث في التاريخ عبدالحميد الفهري، وهو أصيل قرقنة ومن أبرز المدافعين عن الصيد التقليدي في الجزيرة.

البحارة يشكون من إهمال مصائد السمك الثابتة قبل وصولها إلى لائحة اليونسكو
البحارة يشكون من إهمال مصائد السمك الثابتة قبل وصولها إلى لائحة اليونسكو

وبحسب الفهري، يرجع امتلاك البحر في جزيرة قرقنة إلى آلاف السنين، وقد استدل في ذلك ببعض النصوص التاريخية التي تعود إلى القرن الـ12 وما بعده والتي تشير إلى هجوم بعض الأهالي من خارج الجزيرة على قرقنة للاستيلاء على الممتلكات البحرية، وقد اشتكى البحارة أمرهم إلى الباي مراد الثاني (1662 – 1675) فأمر سنة 1662 بتحويل ما تعارف عليه أهالي الجزيرة بالملكية البحرية إلى ملكية مثبتة معترف بها لدى السلطة آنذاك.

وأوضح أنه منذ ذلك التاريخ أصبحت العائلات تسجّل ممتلكاتها البحرية مثلما تسجل ممتلكاتها من الأراضي في البرّ لدى عدول، مشيرا إلى أن أول إمضاء على وثيقة عقد الملكية الخاصة بالبحر قامت به عائلة الشرفي وإليها تمت نسبة اسم الوثيقة التي أطلق عليها اسم الشرفية الذي يرجح أيضا أنه أطلق على الوثيقة باعتبارها تمثّل شرفا للعائلة التي تملكها.

وأرجع عدد من بحارة جزيرة قرقنة تسمية الشرفية إلى شرف هذه الوسيلة التقليدية في الصيد البحري التي اشتهرت بها جزيرة قرقنة منذ قرون وخلو إنتاجها السمكي من أي شائبة أو مواد كيميائية. ويعتبر سمك الشرافي المحرك الأساسي للسوق في محافظة صفاقس رغم غلاء ثمنه مقارنة بأنواع السمك الأخرى. كما أن الذين يشترون هذا النوع من السمك خاصون ومعروفون بحسب سمير يحيى بائع السمك وسط مدينة صفاقس، والذي أوضح أن سمك الشرافي يحلّ بسوق السمك يوميا في حدود الساعة التاسعة والنصف صباحا. وإثر ذلك يشهد بائع السمك حركة مكثفة من قبل زبائنه وذروة قصوى في عملية البيع تنتهي في حدود منتصف النهار بنفاد السمك.

وعن سرّ هذا الإقبال والتهافت على هذا السمك رغم ارتفاع ثمنه، قال عدد من المتسوقين إن الشرافي هو حوت الصفاء ومشهود له بطبيعته ونقائه ولذة مذاقه، فلا يجب أن ينفّرك غلاء ثمنه أمام جودة ونوعية المنتوج الذي تُعرف به جزيرة قرقنة، مضيفين أن ثمنه غال لكن “قدره عال” لدى الأهالي.

الباي مراد الثاني أمر بتحويل ما تعارف عليه أهالي الجزيرة بالملكية البحرية إلى ملكية مثبتة معترفٍ بها لدى السلطة آنذاك

والشرفية، وسيلة الصيد التقليدية التي توجد أيضا في بعض المناطق الساحلية بالبلاد التونسية مثل جرجيس والشابة، مهددة بالتلاشي والاندثار، وذلك بسبب ما يتعرّض له بحارة هذه الطريقة التقليدية في الصيد من إشكاليات تحدّث عنها ربان صيد الأعماق محمد شلاقو.

وأبرز شلاقو أن العائق الكبير الذي يعاني منه البحارة المختصون في صيد الشرفية بجزيرة قرقنة يتمثّل في انعدام منحة الدعم لجريد النخل التي يتم اقتناؤها عادة من مدينة قابس لوضع سياج أو ما يعرف برجل الشرفية وتصنع منه الدرينة أو ما يعرف بدار السمك لتنظيف أمعائه، وهو ما يجبر البحارة على اللجوء إلى حل أقل كلفة وهو استعمال الدرينة البلاستيكية ما يؤثر سلبا على جودة الإنتاج السمكي.

ودعا، في هذا السياق، إلى المزيد من الاعتناء بالشرفية والعمل على تصدير المنتوج السمكي من أجل إضفاء المزيد من النجاعة والمردودية على أداء البحارة، وتثمين هذا الموروث الثقافي الوطني اللامادي والإسراع بإدراجه ضمن التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو).

وخلال زيارة عمل أدّاها وزير السياحة والصناعات التقليدية، محمد علي التومي، يوم 19 أغسطس الجاري إلى جزيرة قرقنة واطلع خلالها على طريقة الصيد بالشرفية، أكد الوزير أن العمل جار بشكل حثيث من أجل إدراج الشرفية ضمن التراث العالمي، مضيفا “الملف يسير نحو الطريق الصحيح”.  وشدّد، من جهة أخرى، على ضرورة وقوف الدولة إلى جانب البحارة المختصين في وسيلة الصيد التقليدية هذه ودعمهم من أجل عدم الدفع بهم نحو اللجوء إلى طرق الصيد التي من شأنها الإضرار بالبيئة والثروة السمكية.

20