الشباب العربي يختار البطالة بديلة عن مهن لا ترضي غروره

يتهرّب غالبية الشباب العرب من احتراف المهن اليدوية والتقليدية، إذ يعتبرونها لا تناسب العصر ولا تلبي طموحاتهم أولا أو رغبات الأهل في بلوغ مكانة اجتماعية مرموقة ثانيا، وذلك رغم معاناة شريحة واسعة منهم من البطالة، فيما تعاني المهن اليدوية نقصا حادا في اليد العاملة.
تونس – لم تعد معايير اختيار مهنة المستقبل واضحة للشباب اليوم، فلا يكفي المردود المادي والعائد الاقتصادي لتحديد مدى حجم الإقبال على مهنة معينة، إذ يلعب كل من العامل الاجتماعي والمستوى التعليمي والطموح معيارا أساسيا في هذا الاختيار، وغالبا ما تكون المهن اليدوية في نهاية سلم الأولويات بالنسبة إلى الجيل الجديد.
ويتجنب قطاع عريض من الشباب مهنا معينة من باب الحفاظ على المظهر الاجتماعي، فهناك إهمال واضح للمهن الحرفية واليدوية على أهميتها، بداية من برنامج التعليم الفني أو حتى من المجتمع ذاته، إلى درجة أن بعضها يوشك على الانقراض رغم عراقتها وارتباطها بالتراث المحلي، مثل صناعة السجاد والخزف والأقمشة والحلي التقليدية.
ويفضل الشباب غالبا الابتعاد عن امتهان هذه المهن نتيجة للركود الذي تعانيه أولا، ولأنها لا تمنحهم المكانة الاجتماعية التي يتطلعون إليها ثانيا، بينما يقول آخرون، ولا سيما الأكبر سنا، إن الجيل الجديد يميل إلى الكسل ويبحث عن مهن مريحة لا تتطلب مجهودا كبيرا، وهو مهووس بالتكنولوجيا الحديثة والبرمجة وكل ما يتعلق بالأجهزة التقنية.
ويؤكد محمد الزاوي أحد أقدم صناع السجاد (الزربية) في تونس، إن هذه المهنة في طريقها إلى الزوال، نظرا لأنه لا أحد من الجيل الحالي يقبل عليها، وتقتصر ممارستها على مجموعة قليلة من ربات البيوت، اللاتي لم يتعلمن أصول المهنة، لكن لديهن فقط ما يجعلهن قادرات على صناعة ما يكسبهن لقمة العيش، وهن أيضا في نقص مستمر، لأن إنجاز زربية واحدة يحتاج إلى فترة طويلة من الزمن، بينما سعر بيعها إلى التجار لا يكفي حتى لتغطية تكاليفها.
وأضاف الزاوي في تصريحات لـ”العرب” أن الشباب يبحثون عن مهن أخرى توفر لهم ربحا دون عناء كبير، ويهتمون بالمكانة الاجتماعية التي تتيحها لهم.
أما عن بقية المهن اليدوية كالنجارة والسباكة فلا يختلف الحال بل كان وضعها أكثر سوءا، فالشباب في إعراض تام عنها على الرغم من أنها توفر أرباحا مرتفعة أحيانا، قد لا توفرها مهن أخرى يفضلها الشباب، متعللين بأنها لا تقدم لهم ما يطمحون إليه.
ويعاني مجال الصناعات التقليدية في تونس إشكاليات متعددة بسبب نقص اليد العاملة وعزوف الشباب عن العمل في هذا القطاع، ويبين لطفي بن أحمد الذي يعمل في حرفة النحاس التقليدي منذ 22 سنة، وهو رئيس الغرفة الوطنية لحرفيي النحاس التقليدي، قائلا “كان يعمل لدي قرابة 30 حرفيا لسنوات، ولكن اليوم لا يساعدني إلا شاب وحيد فقط رضي بالعمل في الحرف التقليدية”.
ويستغرب التونسيون من التناقض الذي يعيشه شباب اليوم، إذ أصبح الاستياء والتذمر من البطالة ظاهرة عامة في البلاد، بينما تشكو قطاعات عديدة من نقص اليد العاملة مثل الفلاحة وقطاع العقارات وأعمال التشييد والبناء.
أعمال شاقة
وتصنف هذه الأعمال بأنها شاقة ومتعبة وتتطلب جهدا عضليا وبدنيا كبيرا إضافة إلى كونها لا تتطلب شهادات ومستوى تعليميا ولا حتى تدريبا أو شهادة تأهيلية. كما تعاني قطاعات مثل الفلاحة خاصة في مواسم الجني من نقص بل ندرة في اليد العاملة.
ويعتبر متابعون أن لجوء أصحاب المزارع والمشاريع الفلاحية إلى العنصر النسائي للقيام بأعمال جني المحاصيل، أو قبل ذلك في القيام بأعمال متنوعة مثل إزالة الأعشاب الطفيلية والزراعة، هو الحل المتاح للتعامل مع مشكلة عزوف الشباب عن القيام بهذه الأعمال لأنهم يرونها شاقة ومرهقة أو لكونهم يريدون أعمالا ووظائف مستقرة وكما يسمونها “مسمار في حيط (حائط)” إذ يعتبرونها أعمالا موسمية توفر أجرا متدنيا. ورغم أن الأجر الفلاحي للشباب أرفع مما هو مخصص للنساء إلا أن القطاع لا يزال يعاني من عزوف الشباب عنه.
الاستياء والتذمر من البطالة ظاهرة عامة في تونس، بينما تشكو قطاعات عديدة من نقص في اليد العاملة مثل الفلاحة وقطاع العقارات والبناء
ولجأ أصحاب المزارع والمشاريع إلى حل مشكلة عدم توفر اليد العاملة المطلوبة، إلى توظيف عمال أفارقة متواجدين بتونس في مختلف الأعمال الفلاحية وخاصة جمع المحصول.
يرى صناع المهن اليدوية أن ما ينبغي لفت انتباه الشباب إليه، هو ضرورة تعلم بعض الحرف التي تسير اليوم في طريق الانقراض، والتي يمكن الاستثمار فيها بشكل جيد، وهي قادرة على خلق وظائف جديدة، وعلى سبيل المثال صناعة الحلي اليدوية أو صناعة الفخار، حيث تعرف أسعارها ارتفاعا كبيرا وتنتعش تجارتها في المواسم السياحية.
لكن آراء الشباب غالبا ما تجتمع حول جملة من الأسباب تدور في فلك واحد وهو الابتعاد عن المهن والحرف اليدوية أو التقليدية، إذ تعزو الغالبية منهم عدم اهتمامهم بها إلى الأسباب الاجتماعية المرموقة والابتعاد عن الإرهاق
والتعب الناجم من الحرف وقلة العائد المادي، واحتقار الحرفة في حد ذاتها، خاصة في المدن الكبيرة.
وفي المقابل هناك فئة قليلة من الشباب ترغب في اقتحام هذا المجال، إلا أنها تفتقر للدعم المادي. إذ يقول الشاب الجزائري محمد (30 عاما) “إنني شاب متعلم وحامل لشهادة في مجال التجارة، غير أنني مهتم بتعلم الحرف اليدوية والاستثمار فيها، لكنني أفتقر للإمكانيات المادية التي حالت دون تمكني من اقتحام هذا العالم”.
ويقول خبراء اجتماع إن عزوف بعض الشباب عن ممارسة المهن اليدوية، تولد عنه نقص في اليد العاملة الفنية في مختلف الحرف، ما ترتب عنه تراجع المشاريع التنموية والإنتاجية، هذا من ناحية.
ويضيفون من ناحية أخرى أن قلة التوعية الاجتماعية والإعلامية، حول أهمية الحرف في الحد من البطالة أدت إلى تفاقم المشكلة، إضافة إلى غياب رؤوس الأموال الداعمة لهذه المهن، وعدم تشجيع المستثمرين للعمل على تطوير الكفاءات، وتكوين عاملين في مجال الحرف أو المهن الفنية.
مبادرات ناجحة
ولحل إشكالية البطالة أو الحد منها، ينصح الخبراء بضرورة تنظيم برامج نقاشية ولقاءات ميدانية مع الشباب، لتعريفهم بأهمية الحرف اليدوية ودورها المهم في تحقيق التنمية ورفع الإنتاجية، والحفاظ على هذه الحرف التي تعد موروثا ثقافيا يعكس تاريخ الأجيال السابقة.
ونجحت بعض المبادرات في استقطاب الشباب بسبب التوعية المستمرة، وأكد أحمد زقنون، مدير التكوين المهني في الجزائر، أنه قد تم تدريب أكثر من 50 شابا منذ سنتين في ستة اختصاصات تتعلق بترميم البنايات القديمة على مستوى مراكز التكوين المهني لولاية الجزائر، ولا سيما بعد فتح ورشات كبرى للترميم في العاصمة تتكفل بها خبرات أجنبية.
وأضاف زقنون، أن التخصصات تتمثل في ست مهن منها الدهن والتدفئة والترصيص والجبس وغيرها، والدليل على نجاح المبادرة هو تمكن المتدربين من المشاركة في هذه الورشات لاكتسابهم خبرات ميدانية، وقد حصلوا في نهاية التدريب على عمل دائم.
عزوف الشباب عن ممارسة المهن والحرف اليدوية، نتج عنه نقص في اليد العاملة الفنية بمختلف الحرف، ما أدى إلى تراجع المشاريع التنموية والإنتاجية
وأشار إلى أن هذه التخصصات يجب إخضاعها لعملية تقييمية لتقدير مدى التحكم فيها، وعبر عن أسفه لعزوف الشباب عن مثل هذه التخصصات رغم أن العمل مضمون لكل متدرب مباشرة بعد التخرج.
وأكد أنه تم إنشاء أكثر من 12.000 فرصة عمل وتشغيل أكثر من 400 مقاول بفضل عمليات إعادة تهيئة وترميم البنايات والعمارات القديمة في مدينة الجزائر.
وتسهم نظرة المجتمع الضيقة إلى هذه الحرف في هروب الشباب منها والامتناع عن تعلمها وممارستها، بدليل أن بعض الأسر تحث أبناءها على المثابرة في الدراسة، للفوز بمناصب عمل مهمة ومرموقة، بينما تحتقر بعض المهن اليدوية التي في اعتقادهم هي من نصيب عديمي الموهبة والذكاء والتحصيل الدراسي.
ويرى البعض أن المجتمع ينظر إلى الشباب الذين يشتغلون بالمهن الحرفية والأعمال اليدوية نظرة دونية، كما أن الفتيات لا يرغبن في الارتباط بشاب يعمل في مثل هذه المهن ويفضلن الارتباط بشاب موظف وذي مكانة مرتفعة.
يضاف إلى ذلك ضعف العائد المادي للمهن اليدوية وارتفاع مستوى الفرد وتطور المجتمع الذي أصبح لا يحتاج إلى بعض هذه المهن القديمة، فبعد أن كان العمل اليدوي هو وسيلة الإنتاج الوحيدة قبل أن تتحول معظم المجتمعات للاستهلاك كبديل للإنتاج، أصبحت المصانع والآلات تقوم بصنع كل شيء فازداد الاستيراد من الخارج.
تقول زينة النحاس وهي ربة منزل سورية، إن “طموحاتنا المهنية في فترة الدراسة الثانوية غير واقعية، وتتأثر بأسباب كثيرة منها ما هو مجتمعي، ومنها ما هو تربوي ومنها ما هو تعليمي.
وتابعت، المجتمع كان الغالب عليه هو احترام مهن معينة دون أخرى، وهذا ما جعل اختيارات الشباب مركزة على المهن التي تجلب القبول الاجتماعي، وفي مجتمعاتنا كانوا يولون أهمية كبيرة لمهنة الطب والهندسة، ولا أدري ما السبب، أما اليوم فأضحت البرمجيات والهندسات التكنولوجية في أعلى سلم اهتمامات الشباب في ظل ثورة التكنولوجيا الهائلة وكثرة الطلب عليها في سوق العمل”.
من جهتها، ترى رفيف العلي وهي أم لولدين في المرحلة الثانوية في سوريا أن “نمط تفكير الآباء بصدد أحلامهم لأبنائهم تغير اليوم بسبب ارتفاع الوعي، وبسبب التغير في التفكير الاقتصادي للمجتمع، والذي يعتمد على قياس المهارات والقدرة على العمل حيث أصبحنا نقيس إمكانيات ومهارات الابن منذ الطفولة لنبحث عمّا يجيده”.
وأضافت أن “ابنها الأصغر يجيد قلب الأشياء ورصها كما ترص البضائع في السوق ويجيد طي الملابس وترتيبها”، وتعتقد أنها “مهارات تجارية أو تصميمية في ما يخص ديكورات الأماكن التجارية.. وهكذا خرجنا من عقدة الدكتور والمهندس.. فكل ما يهمنا هو أن ينجح أبناؤنا”.