الشاعر والتشكيلي سعدالله مقصود يترجل في منفاه

توفي الشاعر والفنان التشكيلي السوري سعدالله مقصود بعد أكثر من سنة من الصراع مع مرض عضال أصاب رأسه، ورحلة علاج متعبة وصعبة ومكلفة، وسنوات من العمر قضاها محاولا تأسيس شيء جديد مختلف، شعبي وقريب من الناس، سواء في فنّه بمحاولاته التشكيلية ومبادراته، أو في أشعاره وكتاباته، أو حتى في نشاطه العام، استسلم الجسد لمصيره، فالرحلة متعبة ومضنية، لا شيء فيها يبشّر بالنهايات الجميلة، سوى لحظات كان يقضيها مع أسرته ورفاقه، فيما كان وطنه هناك يتمزق ويُحرق حتى آخر حلم.
مغمورة بالضوء
وُلد الشاعر والفنان التشكيلي السوري سعدالله مقصود، عام 1966 في قرية حصين البحر بطرطوس، وهي مسقط رأس المسرحي السوري الراحل سعدالله ونوس أيضا، وتخرج من كلية الفنون الجميلة بدمشق، عمل في مجال الإعلان والتصميم الغرافيكي، وابتكر عدّة فعاليات ذات صلة بالفن السوري، مثل حملة الفن للجميع، وله كتاب عن الفنان الراحل لؤي كيالي ومفكرات فنية أخرى، وأعماله مقتناة من قبل وزارة الثقافة اللبنانية ضمن مجموعات خاصة.
ولمقصود ديوان شعري صدر العام الماضي باللغتين العربية والفرنسية في نفس الطبعة، حمل اسم “كأن كلّ شيء على ما يرام”، وقد صدر عن دار أرواد للطباعة والنشر.
يقول في إحدى قصائده “من سيعد إفطارا جماعيا للموتى في هذا الصباح الممطر؟ من سيغسل ألبستهم البالية الممزقة المدماة؟ من سيأخذ بيد هذا الطفل القتيل؟ وُجد بجانب الشاحنة التي كانت تنقل لهم أغذية لها طعم الموسيقى…” لم تقتصر نصوص الشاعر على الحرب والألم فحسب، فقد اهتمت بالمرأة بشدّة، ودافعت عنها؛ الأم والأخت والحبيبة، وكل امرأة صادفها مقصود في حياته، وحتى المرأة في الحرب كان لها نصيبها، وهي تبحث عن أنوثتها وأقراطها في جيوب الموتى، ويعتبرها الأمل الوحيد.
يعتبر الشاعر السوري عبود سمعو أن نصوص سعدالله مقصود على هيئة لوحات داكنة، متمردة، مؤلمة، بسيطة ومعقدة وجريئة. ترتكز على جدار الذاكرة المائل كزورق على شاطئ بعيد، بُعد الطفولة.
|
ويؤكد الشاعر أن نصوص مقصود لا تكف عن العبث بأماكن الذاكرة تلك التي لا تطالها اليد المثقوبة، متمرغة في المكان الاستثنائي، (البلاد داخل البلاد)، لتتعرّى الصور ساخرة متهكمة على مسرح من الألم. يقول سمعو "إن سعدالله استطاع أن يكتب بلغته هو “دورته الدموية” من دون تقليد، تاركا أثر يده على مقبض الباب، باب الشعر ممسكا به كي لا يغلق دوننا".
ويقول الشاعر عقل العويط "ليست هي الأوجاع، ولا هو السرطان، ولا الخراب الوجودي، ولا أيضا الحرب والموت، ما يستثير الشعر في تجربة الشاعر مقصود، وديوانه الجميل “كأن كل شيء على ما يرام”، بل هو الشعر نفسه، يُطلّ من الثقوب والنوافذ ليشيع هواءه ودماءه في شرايين الكلمات، ويمنحها قدرة على استشعار المقاومة والتألق".
ويضيف “يتمسك الشاعر بالهواء كمن يتعلّق بغصن مخلوع، كي يوهم نفسه بأن معانيه لن تتساقط كتشلّق أشباح الموت وتجمّعها في القعر التراجيدي للحياة السورية، ببساطة ماحقة، يكتب مقصود حياته وحياة الآخرين، وحياة سوريا، مثلما يكتب رائحة النهايات التي تفوح في الأرجاء فتكاد تكون العطر المأسوي الوحيد الموعود بالبقاء؛ بساطته تنوب عن القول، يكفيه أنه ينزف لكي يفهم القارئ كل شيء. يكفيه أنه يرى، وأنه يفرش يأسه على مائدة الصفحات، لكي يمتلئ القارئ بالشعر”.
تنفس يا سعد
إن فشل الزمن في تحقيق أحلام الشاعر والتشكيلي الراحل سعدالله مقصود، ورفض منحه المزيد، فإنه قد وهبه في حياته القصيرة ما يمكن أن يملأ به المكان، وهبه أشعارا قصيرة كحياته، لكنها مغمورة بالضوء والحياة.
يقول صديق سعدالله مقصود الناشر السوري أحمد م. أحمد "تنفّس يا سعد، كما يتنفّس أبناء لهم أخوة وأهل ووطن. وكمن له حلم بامرأة وراتب شهريّ، وبغفوة لا يعكرها مرض البحر المتوسط بعد بيعك جرائد “تشرين” في الصباح، وبيقظة لا تعكّرها مماسح عاملات النظافة في أروقة السكن الجامعي. يا “حاضنا سنبلة الوقت”، لن “تقتحمَ الحياةُ بخزّافيها المشهدا” بعد ذلك، ولن ننتظر حتى يصفو الجو، ويغادر المؤجر الجشع مدخل الدار وقد آن دفع إيجار غرفة المزة، وأنت وأنا في مخيم اليرموك بليراتنا القليلة نبحث عن نسخة من مجلة “الكرمل”، ثم نمرّ بحسين راجي ونكمل الطريق إلى مرسم فاتح المدرس، ونختم الجولة في غرفة وافد حيدر الذي يكذب علينا ويقول إن العرق قد نفد لديه، لينتشل بعد ساعة من الظرافة نصيّة الريان من تحت السرير".
ويتابع "تنفّس يا سعد، أنت لم تحلم بأكثر من الأوكسجين، والأوكسجين يليق بك. وفي محادثتنا المرئية منذ أيام رأيتُ جهاز التنفس الاصطناعي، وزجرتك قائلا: تنفّس، تنفّس هذا الأوكسجين النقيّ، فالأوكسجين هو الأوكسجين حتى ولو كان صناعيا من جهاز كنديّ. وكنتَ تصدقني وتتنفس ما حلمت أن يكون هواء سوريا من شرفتي البحرية التي أقسمت لك أنك ستراها وتسكنها طويلا، لكنني كذبت. وأنتَ لبثت لصق نافذة مونتريالية تتبخر رويدا رويدا كحليب أمهاتنا الضنين، كان عليّ أن أكون قربك في هذه “المونتريال”، أن أجلس إلى جوارك، أنت على الصوفا الطويلة وأنا على كرسي خشبي مزعزع يشبهنا، وذراعي اليسرى تحت رأسك تخبئ كفّي ذات الأصابع الثلاثة التي كنتَ لشدة حبك لها تحضتنها وتقبّلها".