الشاعر العربي مبدع وليس إرهابيا

كم هي متوهجة ومشعة روح المبدع، كم هي خفاقة محلقة متمردة مولعة بالسفر في عوالم الصفاء والإشراق والغواية والحرية، وكم تمقت التدثر بعباءة المؤسسة، وتحلم بالتحرر من كل الأنساق المألوفة والجاهزة، والاحتراق بصوفيتها ورهبنتها وتوحدها مع ذاتها ومع الكون، وكم ترفض أن تكون شاهدة صمت على كل زيف وتحجر وعقم يحاصرنا، لكن المبدع العربي للأسف لا يهنأ طويلا بخلوته الذهبية، فسرعان ما يجد من يقتحمها بجرأة ووقاحة، بتهمة “إخلاله بالآداب العامة”، و”المس بالذات الإلهية”، وتضمين إبداعه نصوصا قرآنية في سياق فاحش مبتذل… وغيرها من “الانحرافات الإبداعية” في نظرهم، التي تجعل المبدع يعيش حالة من الرهاب والرعب النفسيين، بعدما كان يعيش حالة من الإشراق والانتشاء الروحي والفكري .
صحيح أن هناك من سدت أمامه أبواب الشهرة، فالتجأ إلى ذكر الذات الإلهية في سياق فارغ أجوف، وجعل نصوصه إباحية عارية فاحشة خالية من أي عمق فكري أو وجودي كي يطفو على سطح العالم، وهو الذي طالما أقام في مناطق ظليلة من النسيان، لكن هناك في المقابل من أبهرونا بعمقهم الإبداعي والفكري وخلخلتهم للجاهزية، وفاجأونا بتمثلهم الصادم للذات وللعالم من حولهم، وعوض الاحتفاء بفكرهم وإبداعهم، يتمّ الزج بهم في محكمة ظالمة، والمطلوب منهم ليس الدفاع عن أفكارهم ونصوصهم فقط بل الدفاع عن معتقداتهم وإثبات إيمانهم والردّ على تكفير الآخرين لهم.
وقد عرفت مصر أكبر “تاريخ مصادراتي”، دون استثناء -طبعا- باقي الدول العربية، وإن كانت بدرجة أقل، فمنذ التسعينات إلى الآن، منع أكثر من 81 كتابا موزعا بين الديني والثقافي والسياسي، ويؤكد الشاعر المصري حلمي سالم في كتابه “ثقافة كاتم الصوت”، أن النصف الأول من القرن العشرين كان أخف من النصف الثاني، حيث سجلت فيه ثلاث وقائع: واقعة مصادرة كتاب طه حسين “في الشعر الجاهلي”، وكتاب الشيخ علي عبدالرازق “الإسلام وأصول الحكم”، وكتاب أنور كامل “الكتاب المنبوذ” عام 1935، في حين سجل النصف الثاني من القرن العشرين أكبر نسبة. وربما يجدر بنا تأليف موسوعة للمصادرات والمنع، على غرار “موسوعة العذاب” التي ألفها الباحث العراقي الراحل عبود الشالجي لتأريخ أنواع التعذيب المختلفة، وهاته الموسوعة يجب أن تبدأ من “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ، مرورا بقضية نصر حامد أبوزيد ونوال السعداوي وحلمي سالم وأحمد الشهاوي واللائحة طويلة…
فأنا هنا لا أنصب نفسي محامية للدفاع عن أيّ مبدع أو كاتب عربي تم الإجهاز على حقه في التعبير والإبداع، فهو أقدر من أي شخص آخر، للدفاع عن نفسه وقناعاته انطلاقا من اعتداده بإنسانيته وبفكره وذاته وشاعريته، بل أدافع وبقوة عن حرية النص الإبداعي في الترميز والتماهي والمجاز والتخييل والاقتباس والكناية والتناص والانزياح.. ومختلف التقنيات التي تجعل من النص منفتحا على إمكانيات عدة في التأويل، عوض أن يقبع مغلقا ممتقعا وحيدا في كهف مظلم أحادي التأويل.
لكن للأسف أمام جرأة المبدع ومجاهدته ومخاضه لخلق نص إبداعي أو فكري مغاير ومجدد في أفكاره وطروحاته وجماليته، يصطدم بامتعاض ورفض من نوع آخر، رفض القارئ، فهذا الأخير هو أيضا نتيجة حتمية لتربية سطحية ساذجة يغلب عليها التدجين وغياب النقد وعدم إعمال العقل والفكر، فيجد المبدع نفسه أمام محاكمات متعددة الأوجه، محاكمة المجتمع من جهة، والدين والدولة من جهة أخرى، فينشغل بالدفاع عن معتقداته عوض الانشغال بالإبداع وتحرير العقل والفكر الإنساني، وربما هاته الضجة كانت لصالحه، وخلقت له أكبر عدد من القراء، بعدما كثرت الشكوى والتذمر من عزوف المواطن العربي عن القراءة، فكل ممنوع مرغوب، ولكم تداولنا ونحن طلبة خلسة كتبا ممنوعة سحبت من السوق، وأحسسنا بلذة أكبر ونحن نسبر أغوارها ونستنطق مكنوناتها بعيدا عن الأنظار.
|
وأنا أتحدث عن هذا المنع أو اللعنة التي تطال المبدع العربي سواء في مصر أو باقي البلدان العربية، لعنة صادرت حقه في الاختلاف والتعدد وللانتماء لواقع مظلم رتيب ومميت، أحس وكأنني أعود إلى الوراء، وإلى عصور الانحطاط في الدولة العثمانية وإلى القرون الوسطى ومحاكمة غاليليو وحرق كتب لوثر وديكارت… نتيجة لهيمنة الكنيسة الكاثوليكية عند الأوروبيين، الذين تداركوا الوضع وأشرقت حضارتهم وانتصرت قوى التنوير وخصوصا حين نهلوا من فكر ابن رشد وغيرهم من العلماء العرب، أحس وكأنني أعود إلى عهد الغزالي وابن رشد وحرق كتبهم والعداء للفلسفة، ومقولة “من تمنطق تزندق”، وربما يجدر بنا أن نقول الآن “من أبدع أهدر دمه”.
شيء مخجل أن يصادر الإبداع والجمال وتنصب له محرقة علنية باسم الدين، والله خير من أبدع هذا الكون، ونحن الآن أكثر من أي وقت مضى، في حاجة إلى أفكار راقية متنورة مجددة تصون نقاءنا وإنسانيتنا وجوهر وجودنا في ظل هذا التلوث الفكري والإعلامي والديني الذي نعيشه، أفكار تلجم وحش الأفكار الظلامية المتطرفة المناغية للعصور الغابرة والتي أتت على الأخضر واليابس من فكرنا وديننا، بشكل يقضّ مضاجعنا يوما بعد يوم. شيء مخجل أن نصدر أحكاما ظالمة، دون حتى الرجوع إلى النص وقراءته والتأكد من صحة ما قيل، تحركنا “غيرتنا المزعومة” على ديننا وفروسيتنا البلهاء لقطع دابر كل من ذكر اسم الله أو الرب في سياق ما، وربما وجب الاحتراس من ذكر “رب الأسرة”، فربما يلتقطها “فاعل خير” ويكفرك بتهمة إنزال كلمة الرب منزلة الأسرة.
شاعرة وكاتبة مغربية