الشاعر السوري نوري الجراح يمجد بطولة الإنسان في مواجهة المأساة

التجربة الشعرية للشاعر السوري نوري الجراح تقوم على استعادة الأساطير والتراث الحضاري المشترك لحضارات المتوسط، حيث يعيد بناء السردية التاريخية منذ هوميروس إلى قوارب المهاجرين السوريين الغارقة في بحر إيجه، تاريخ مديد ملأه الغربيون بما يريدون من سرديات، بينما الحقائق مخفية في الأساطير التي يحييها الشاعر بطريقة مختلفة عن سواه.
بيروت- خاض الشاعر السوري نوري الجراح على امتداد عقد كامل كان حافلا بالأحداث التي هزت المنطقة العربية وحولت أوطانها إلى مصانع للتراجيديا البشرية، وخاصة ما شهدته سوريا من حرب طاحنة ودمار وتهجير مازالا ماثلين.
وعلى عكس بقية الشعراء الذين اختاروا الوقوف في منطقة سياسية وتصدير الأحكام أو الشكوى من الواقع المرير والأحداث المتسارعة التي لا تعطي نفسا لا للمخيلة ولا للفكرة ولا للتأمل للكتابة، اختار الجراح أن يبدأ من الجذور، جذور الذات في فرديتها وجمعها، مستعيدا الأساطير بطرق مختلفة لا تجعلها على هامش اللعبة الشعرية، في استعارة لمصطلحات المسرح، وإنما هي جوهرها بانبعاثها في حياة جديدة.
السخرية من البطولة

◙ الأَعمالُ المنشورةُ في هذا "السِّفر الشّعري" تعيدُ التأكيد على عَدم انفصال حداثة الشعر وابتكاريته عن الموقف الأخلاقي للشاعر
أصدرت “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” في بيروت، أخيرا المجلد الثالث لأعمال نوري الجراح، ويضمُّ هذا المجلد الجزء الأَوفى من أَشعاره المكتوبة في العقد الأخير، خصوصاً، مجاميعه المنشورة ما بين 2011 و2019 وهي “يوم قابيل والأيام السبعة”، “يأس نوح”، “قارب إلى ليسبوس”، “نهر على صليب”.
والمجلدان الأول والثاني لأعمال الجراح الشعرية صدرا في عام 2008، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر أيضاً. وضم المجلد الأول مجموعاته المبكرة: الصبي (بيروت 1982) مجاراة الصوت (لندن 1988)، نشيد صوت (كولونيا 1990)، طفولة موت (الدار البيضاء 1992)، كأس سوداء (لندن 1993)، القصيدة والقصيدة في المرآة (بيروت 1995).
أما المجلد الثاني فضم مجموعات: صعود أبريل (بيروت 1996)، حدائق هاملت (بيروت 2003)، طريق دمشق (بيروت 2004)، الحديقة الفارسية (بيروت 2004).
وحسب نقاد شعره، فقد فَتح الجراح، في العقد الأخير من تجربته الشعرية أُفقاً جديداً للقصيدةِ العربية بتطوير لغةٍ شعريّة ملحميّة تستدركُ الأسطورةَ والتاريخ، إلى جانب الوقائع المعاصرة التي عبّر من خلالها بجماليةٍ مبتكرةٍ ورؤيةٍ حديثةٍ وقاموسٍ لغوي ثَري عن ذاته الشّعريّةِ العميقةِ في ارتباطها الوجداني (من موقعه في المنفى)
بالتحولات العاصفة، والآلام الكبرى التي حلَّت بالسوريين في فضاء عربي عصفتْ به ثوراتُ الشباب على بنيانٍ متهالكٍ أنهكه المستبدون والظلاميّون، وانتُهكتْ فيه الحريّاتُ والكراماتُ.
الأَعمالُ المنشورةُ في هذا “السِّفر الشّعري”، كما يصفه الناشر، تعيدُ التأكيد على عَدم انفصال حداثة الشعر وابتكاريته عن الموقف الأخلاقي للشاعر بوصفه أول المدافعين عن الحق والجمال والحرية في الأزمنة العاصفة.
ويعتبر النقاد العرب الشاعر نوري الجراح المولود في دمشق عام 1956 واحداً من أبرز الشعراء العرب ما بين القرنين العشرين والحادي والعشرين. فهو صاحب مشروع شعري حداثي، تبلور خصوصاً في أواسط التسعينات من القرن الماضي مع توالي صدور مجموعاته الشعرية التي بدأها سنة 1982 واعتبرت كل واحدة منها بحثا شعريا مختلفاً عمّق الشاعر من خلاله رؤيته الشعرية وموقفه الشعري، ونظرته إلى العالم والوجود، وذلك من خلال قاموس مختلف عن السائد ولغة خاصة نحتها وطوّرها عبر رحلة نصف قرن مع الشعر. إذ يتسم شعره بتعدد المصادر الثقافية ويغلب عليه الاهتمام بالميثولوجيا والأساطير والحكايات القديمة، ويكشف عن ملامح ميتافيزيقية ورؤى وجودية كيانية، ونزوع ملحمي.

◙ شعر الجراح يتسم بتعدد المصادر الثقافية ويغلب عليه الاهتمام بالأساطير ويكشف عن رؤى وجودية كيانية ونزوع ملحمي
يصف الناقد خلدون الشمعة الأعمال المنشورة في المجلد الثالث بأنها “تصدر عن شعرية وجود وكينونة، شعرية خصام مع الذات لا شعرية خصام مع الآخر. فمن خصامنا مع الآخرين – يقول ييتس – نصنع البلاغة، ومن خصامنا مع أنفسنا نصنع الشعر”.
ويعتقد الشمعة أن “أيقونية تجربة نوري الجراح لا تكمن في أنه أدخل تأويله الشخصي على الشعر الملحمي فحسب، بل في أنه تمكن وفقاً للموهبة الأكثر إفصاحاً، من أن يُدخل جنساً أدبياً جديداً كل الجدّة، على الشعر العربي، وأعني به ‘الملحمة النقيض‘ (mock- epic) وهو جنس أدبي معروف في الأدب الإنجليزي، لا يُقَلِّد ولا يُحاكي بل يسخر من البطولة نفسها في مواجهة المأساة”.
أبطال ليسوا خالدين
يضم المجلد الثالث جل المجموعات التي أصدرها الشاعر في العقد الأخير ما جعل من تجربته، كما يبيّن الشمعة، “التجربة المعبرة بصدق، وأداء بارع ومبتكر عن محنة السوريين في مصائرهم التراجيدية، وهي بلا شك، تشكل إضافة ذات شأن إلى المنجز الشعري العربي الحديث”.
وينفتح الجراح على أفق شعري مغاير، أفق لا تقيده التنظيرات المسبقة التي تصادر باسم تماهي الهامش مع المركز، على مفهوم للشعرية، قوامه الدُّرْجَة (الموضة)، وهي تنظيرات تذكرنا أحياناً بهجاء كيركغارد لفلاسفة يشيدون قلاعاً شاهقة فيما هم يسكنون في أكواخ آيلة للسقوط.
وعبّر الجراح سابقا بأنه لا منافسة له إلا مع ذاته، وهذا ينعكس بشكل جليّ على شعره، إذ وهو يلاحق تراجيديا السوريين الهاربين عبر قوارب الموت، في “قارب إلى ليسبوس” لم يؤسس خطابه وفق التصورات الدارجة ولم يتناول بنفس من الشكوى حتى الموت نفسه غرقا وبشكل اعتباطي ومأساوي لسوريين هاربين من جحيم الحرب، بل أسس الشاعر نصه على استعادة الرحلة من بداياتها، فجر الحضارة وبداية تشكل الأساطير.
أيقظ الشاعر الرموز الميثولوجية وجعلها تتقمص الرحلة المميتة للسوريين، جعلها شخصيات من لحم ودم، تجرب الموت والفناء، وتعيد ترتيب فصول الحكاية، حكاية شعب آل إلى الشتات وحكاية بلد آل إلى الخراب.
القصائد تؤكد أنه لا تنفصل حداثة الشعر وابتكاريته عن الموقف الأخلاقي للشاعر أول المدافعين عن الحق والجمال والحرية
وكأننا أمام "نهر على الصليب"، فحادثة الصلب التي تتكرر يوميا مع السوريين يدوّنها الشاعر من جوانب تعيد أسطرتها، وتحوّل الملحمة إلى أسطورة، لكن هذه المرة أبطالها ليسوا خالدين ولا آلهة ولا حتى أنصاف آلهة، إنهم أناس من الهامش.
يذكر أن أعمال الشاعر ترجمت إلى العديد من اللغات الآسيوية والأوروبية، إذ صدرت له 6 مجموعات بالفرنسية عن دور مختلفة، وكتب شعرية أخرى بالإنجليزية والإسبانية والفارسية واليونانية والتركية والإيطالية، وطبع بعضها أكثر من طبعة.