السيوطي

تتزايد في القاهرة شركات بيع الكتب بطريقة الطلب عبر الإنترنت والتسليم حسب العنوان. ولعل هذه طريقة لإنقاذ وضع الكتاب في ظل تراجع القراءة. فالشركات تتعمد اللجوء إلى نشر ملخصات للكتب، لعل المُلخصات تساعد على إحياء المُصَنّفات التي أهملها الناس.
تسلمت إثنين من العناوين أرسلت في طلبهما. الأول من جزأين، عبارة عن “موسوعة ميسرة” للتاريخ الإسلامي، والثاني طبعة جديدة من “تفسير الجلالين” لجلال الدين المحلي والإمام الحافظ جلال الدين السيوطي وفيه لهذا الأخير “لُباب النُقول في أسباب النزول”.
وبالمناسبة، ظل كتاب “تفسير الجلالين” يلازمني في كل مطرح، بسبب طبيعته المعجمية، ثم إن الحافظ جلال الدين السيوطي رجلٌ ظريف من أسيوط في صعيد مصر، كان غزير الإنتاج، عاش ستين سنة مشتعل الذهن في العصر المملوكي الأول، ومات في سنة 1505. ففي عصره نهضت الثقافة وانتعش الإبداع من جديد بعد أن دمر المغول مكتبات بغداد وسقطت الأندلس ثم أوغل الرهبان في محاكم التفتيش، وأحرقوا ما تبقى من المكتبات الإسلامية في القرن الذي ولد فيه السيوطي. ولعل أطرف ما في سيرة الرجل أنه لم يتكتم في نشاطه الفكري على موضوع الجنس ولم يزعم الحشمة لنفسه مثلما يفعل إسلاميو اليوم، بل لم ير التكتم أدباً وتقوى، وقد ساعده مجتمع تلك الفترة المملوكية من خلال تقبل إنتاجه على التوغل في مسألة النكاح بكثير من الجدية وقليل من الدُعابة، مع تسمية الأسماء وأعضاء الجسم بأسمائها المتداولة على ألسنة العامة. فكتب ستة كتب جنسية، بكل التفصيلات والحكايات وأوضاع المضاجعة ونوادرها حتى أصبح فقيه الجنس والحب. ولنا أن نتخيل ما سيحدث له لو أنه عاش في زمننا، وخرج للناس بكتاب “نواضر الأيك في معرفة…” ففي ذلك الكتاب أفصح عن عناوين الفصول، على النحو الذي يعد خدشاً للحياء في القرن الحادي والعشرين. فعندئذٍ سيكون السجن أولى به، علماً بأن ذلك كتاب ما تزال المكتبات الإسلامية كـ”مكتبة النور الإلكترونية” الكبرى تعرض تحميله عبر الإنترنت مجاناً.
بخلاف ذلك هناك ما يزيد عن ستين كتاباً تركها السيوطي شاملة لقضايا الدين والدنيا وتاريخ الأولين، من “مفتاح الجنة في الإعتصام بالسنة” إلى “الآية الكبرى في شرح قصة الإسراء” وما بينهما مثل “حُسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة”، وذلك بخلاف تدريس الفقه والنحو والفرائض، ومن نوادر تجربته أنه مثلما تميز بالتجرؤ على تأليف كتب الجنس إلى جانب التفسير وتدريس الفرائض؛ تميز أيضاً بكونه ثابر على تدريس العديد من النساء حتى جعلهن شيخات بلغن مراحل متقدمة من العلم واستطعن الإفتاء، ومن مسلسل الطرائف أن علاقته مع بعض شيوخ عصره اضطربت، وتعرض للاعتداء العنفي جعله يستنكف عن التدريس، ويؤلف كتاباً بعنوان “التنفيس في الاعتذار عن ترك الإفتاء والتدريس”!
وربما يكون السيوطي هو أول من تعرض في تاريخ العمل الفكري إلى الاتهام بالانتحال وسرقة النصوص، وتلك كانت واحدة من أعتى خصوماته، ولم يكن الاتهام صحيحاً لأن النصوص القديمة التي ضاعت قام هو بتقديم تحقيقات وشروحات لعدد منها. لكن الشيخ الذي اتهمه ويُدعى السخاوي تلقى الرد، وكان عبارة عن كتاب أدبي بعنوان “مَقامَة الكاوي في الرد على السخاوي”.
طوى النسيان أسماء خصومه، وأغلب الظن أنه أدرك في سنوات حياته الأخيرة، عندما اتخذ لنفسه داراً على نهر النيل، أن إسمه لن يُطوى. كتب تفسيراً للقرآن، وكتب شروحات للجنس، وبقي في حال التداول.