السينما الفرنسية تودع آلان ديلون آخر عمالقتها

جاذبية لكبار المخرجين والنساء مقابل مشاكل سببها مواقفه وآراؤه وعلاقاته.
الاثنين 2024/08/19
لقطة لديلون من أحد أفلامه

سواء كانت وسامته هي سبب شهرته، أو أنه لطالما أثار الجدل بعلاقاته الغرامية المتعددة وتصريحاته المثيرة لغضب محبيه، فإن آلان ديلون الذي رحل عن عالمنا الأحد كان واحدا من أهم نجوم السينما في القرن العشرين، حيث لعب أدوارا مهمة في أفلام صنفت بأنها من أفضل ما أنتجته السينما الفرنسية.

باريس- ودعت السينما الفرنسية آخر عمالقتها النجم السينمائي آلان ديلون الذي توفي الأحد عن 88 عاما، بعدما طبع أجيالا بوسامته وأدواره اللامعة على الشاشة.

ديلون يعد نجما سينمائيا أسطوريا أبهر بجماله وجاذبيته كبار المخرجين وشكّل لعقود طويلة أحد أعظم الأسماء في مجاله، قبل أن ينكفئ في آخر عمره وسط مشكلات عائلية بين أبنائه.

وقال أبناء النجم السينمائي الثلاثة في بيان مشترك، واضعين خلافاتهم جانبا بعدما كانوا في نزاع قضائي لأشهر بشأن والدهم الذي أضعفه المرض، إنّ “ألان فابيان وأنوشكا وأنتوني، وكذلك لوبو (كلب ديلون)، يعلنون بعميق الحزن رحيل والدهم. لقد توفي بسلام داخل منزله في دوشي، محاطا بأولاده الثلاثة وعائلته (…) التي تطلب منكم احترام خصوصيته، في لحظة الحداد المؤلمة هذه”.

وقال ابنه أنتوني إنّ نجم “بلان سولاي” و”لو ساموراي” و”لا بيسين” توفي قرابة الساعة الثالثة صباحا.

شخصية مدمرة

◄ آلان ديلون اعتاد في سنوات عمره المديد إثارة الجدل، مع تصريحاته الحادة حول النساء أو العالم الحالي
ديلون اعتاد في سنوات عمره إثارة الجدل، مع تصريحاته الحادة حول النساء أو العالم الحالي

الظل والنور، ازدواجية جسّدها الممثل طوال حياته وشكّلت الأساس في شخصية ممثل لا يسعى إلى أن يكون محبوبا ولا يتوانى عن الإفصاح بمكامن المرارة والازدراء إزاء سلوكيات الآخرين.

يتمتع آلان ديلون “بشخصية مدمّرة للذات إلى حد ما ويبحث عن هويته الخاصة”. توصيف أطلقه عليه المخرج جوزيف لوسي الذي تعاون مع الممثل في فيلم “موسيو كلاين” سنة 1976. كما وصفه بأنه رجل “تراجيدي”، وذلك في رسالة من المخرج إلى زوجة ديلون في العام نفسه.

ودأب ديلون على التأكيد بأنه ليس مجرّد مؤدّ للشخصيات، بل ممثل حقيقي “يعيش” أدواره، رغم أنه لم يكن يحلم بالسينما في سن المراهقة.

وبأدواره المختلفة، من سفاح ذي عيون زرقاء في “بلان سولاي” (1960)، إلى قاتل مأجور قليل الكلام في “لو ساموراي” (1967)، مرورا بالميكانيكي السكّير في “نوتريستوار” (1984)، أسر آلان ديلون بنظرته وحركاته جمهور السينما.

وأثار النجم الراحل إعجابا كبيرا لدى المخرجين في السنوات التي عُرفت بالثلاثين المجيدة (1945 – 1975)، في فرنسا كما في إيطاليا، مع استثناء ملحوظ لسينمائيي الموجة الجديدة الذين “لم يرغبوا بالتعامل معي”.

وقال آلان ديلون، المولود في الثامن من نوفمبر 1935 في سو بضواحي باريس، إنه لم يكن سعيدا في الطفولة، إذ تقلّبت حياته بين عائلتين إثر انفصال والديه وتكوين كل منهما أسرة جديدة. وبعدما كان مقدّرا له في بداية حياته أن يصبح متخصصا في مجال بيع اللحوم، ترك ديلون كل شيء وانضم إلى مشاة البحرية في الهند الصينية في سن السابعة عشرة.

كان عمره 20 عاما عندما عاد إلى باريس، حيث فتحت له وسامته أبواب السينما. وقد ظهر لأول مرة عام 1957 في فيلم “كان لا فام سانميل” للمخرج إيف أليغريه.

وبعد عام، التقى برومي شنايدر، التي كانت قد حققت نجومية كبيرة بالفعل بشخصية سيسي إمبراطورة النمسا.

وتلت ذلك علاقة غرامية عاصفة بينهما حظيت باهتمام إعلامي واسع استمرت خمس سنوات.

وقد حققت حينها مسيرته المهنية نجاحا سريعا. وصور على مدى سنوات بعضا من أهم روائع الأعمال السينمائية الفرنسية، أبرزها “بلان سولا” و”باري برول تيل” (رينيه كليمان)، و”روكو إيه سي فرير”، و”لو غيبار” (لوشينو فيسكونتي)، و”ليكليبس” (مايكل أنجلو أنطونيوني)، و”لو ساموراي”، و”لو سيركل روج”، و”أن فليك” (جان بيار ملفيل) و”لا بيسين” و”بورسالينو” (جاك دوري).

اسم بارز

◄ صورة للنجم الفرنسي مع النجم المصري عمر الشريف
صورة للنجم الفرنسي مع النجم المصري عمر الشريف

كان أهم مخرج سينمائي في مسيرته جان بيار ملفيل الذي عمل معه في فيلمين هما “لو ساموراي” (1967) و”لو سيركل روج” (1970)، قبل “ان فليك” (1972).

وبفضل هذه الأدوار، استحال ديلون اسما بارزا في السينما، وعزز شهرته من خلال أفلام إثارة كثيرة أخرى.

وألهمت شخصية ديلون مخرجين من مختلف أنحاء العالم، منهم جون وو من هونغ كونغ والأميركي كوينتن تارانتينو، على الرغم من أن ديلون لم يصل مطلقا إلى هوليوود.

ومن التنافس إلى التعاون النادر (“بورسالينو” عام 1970 و”اون شانس سور دو” عام 1998)، سارت مسيرة ديلون المهنية جنبا إلى جنب مع نجم آخر هو صديقه جان بول بلموندو الذي كتب عام 2016 “هو وأنا كالليل والنهار”.

وكان ديلون يفتخر بأنّه لم يعمل مطلقا على أسلوبه بل اعتمد على الكاريزما التي كان يتمتع بها.

وقال الممثل فنسان ليندون عن النجم الفرنسي الراحل في وثائقي “ريفولفرز” عام 2012 “إنه ليس ممثلا عاديا. أستطيع النظر إلى صوره لساعات. إنه أجمل ما يمكن رؤيته في العالم. أجمل من النظر إلى امرأة جميلة”.

◄ صورة آلان ديلون مع زوجته ناتالي
صورة آلان ديلون مع زوجته ناتالي

وعلى الرغم من تصويره حوالي مئة فيلم، بعضها دخل تاريخ السينما من بابه العريض، إلا أن آلان ديلون حصد في مسيرته جائزة سيزار واحدة فقط وذلك في عام 1985 عن فيلم “نوتريستوار” للمخرج برتران بلييه، وحصل على السعفة الذهبية الفخرية في مهرجان كان في عام 2019.

وبعد بضعة أسابيع على تسلمه السعفة الفخرية، أصيب بسكتة دماغية تعافى منها بصعوبة لأنه كان يعاني أيضا من سرطان الغدد الليمفاوية.

وانقطع الممثل عن تصوير الأفلام منذ سنوات، إذ قال في مقابلة مع صحيفة لو موند الفرنسية سنة 2018 “لقد مات المخرجون الذين كنت أستطيع التصوير معهم”. لكنه كان يريد “قبل أن يموت، أن يصنع فيلما تحت إشراف امرأة”.

واحتجت ناشطات نسويات أميركيات بشدة خلال تكريم الممثل الفرنسي في مهرجان كان، عام 2019، ووصفنه بأنه “عنصري ومعاد للمثليين وكاره للنساء”.

وتعليقا على ذلك، رد تييري فريمو، المندوب العام للمهرجان، قائلا “لن نمنح جائزة نوبل للسلام لآلان ديلون، بل سنمنحه السعفة الذهبية الفخرية عن مسيرته التمثيلية!”.

وخلال عودته إلى السجادة الحمراء ليتسلم سعفة ذهبية فخرية، قال دامعا وبلهجة مؤثرة “إنه كتكريم بعد الوفاة، ولكن في حياتي”.

وأضاف الرجل الذي عاش سنواته الأخيرة في منزله المحاط بأسوار عالية في دوشي حيث كان يرغب أن يُدفن على مقربة من كلابه “سأغادر، لكنني لن أذهب من دون أن أتشكركم”.

وجاء في نص خطابه “غداة حصولي على هذه السعفة الذهبية الفخرية، أشعر برغبة في شكر جميع أولئك الذين عبّروا لي بطريقة أو بأخرى عن عاطفتهم وتعاطفهم، وأكثر من ذلك”.

وتابع “بينما تشارف رحلتي نهايتها، أودّ أن أقول إنّي عرفت الكثير من الشغف، والكثير من الحب، والكثير من النجاحات والإخفاقات، والكثير من الجدل، والكثير من الفضائح، والقضايا المظلمة، والكثير من الذكريات، والكثير من الفرص الضائعة. واللقاءات العفوية، والكثير من الصعود والهبوط. وعندما لا تعود الأمجاد سوى ذكريات عبثية وبعيدة، ثمة أمر واحد فحسب سيبقى مشرقا باستمراريته وطول بقائه هو أنتم، أنتم وحدكم. فيا من صنعتم ما أنا عليه، ومن ستصنعون ما سأكون عليه، كان علي أن أقول لكم ذلك. أقول لكم شكرا، شكرا، شكرا”.

◄ الفنان ممازحا الصحافية الفرنسية كريستين أوكرنت
الفنان ممازحا الصحافية الفرنسية كريستين أوكرنت

اعتاد آلان ديلون في سنوات عمره المديد إثارة الجدل، مع تصريحاته الحادة حول النساء أو العالم الحالي الذي قال إنه “يتقيأه”، والتعاطف المعلن مع اليمين، خلافا للاتجاه السائد في أوساط السينما، وعادته النافرة بالتحدث عن نفسه بضمير الغائب.

ولا يمكن إغفال علاقاته الخطيرة في مراحل معينة مع بعض رجال العصابات. وقال ديلون في عام 2021 “لقد تعاملت كثيرا مع عصابات الجريمة المنظمة، حتى إنني كنت على تماس مباشر معها”.

في عام 1968، عُثر على صديقه المقرب ستيفان ماركوفيتش مقتولا في غابة، وقد خضع الممثل للاستجواب في القضية التي تحولت إلى قضية دولة.

وأعلن ديلون أنه استمد من النساء “دافعه ليكون ما هو عليه”، ومن بينهنّ رومي شنايدر، وناتالي ديلون التي ارتبط بها عام 1964 في زواجه الوحيد، وهي أم ابنه أنتوني، وميراي دارك، شريكة حياته خلال 15 عاما، والهولندية روزالي فان بريمن، التي أنجب منها أنوشكا وآلان فابيان.

◄ نجم سينمائي أسطوري أبهر بجماله وجاذبيته كبار المخرجين
نجم سينمائي أسطوري أبهر بجماله وجاذبيته كبار المخرجين

وقال عندما كان يبلغ 87 سنة، في مقدمة سيرته الذاتية “آلان ديلون، أمور ايه ميموار”، “لم أحلم مطلقا بأن أصبح ممثلا. دخلت المهنة وواصلت التمثيل للنساء ومن أجلهنّ”، مشيرا إلى أسماء أنثوية في المجال السينمائي منهنّ بريجيت أوبير، التي عرّفته إلى ميشيل كوردو، زوجة المخرج إيف أليغريه، والتي أصبحت أيضا عشيقته.

وقال “فرضتني على زوجها الذي أعطاني أول دور لي في كان ‘لا فام سان ميل’ (1957)”.

وكان الممثل يفضل وصفه بـ”الساحر” لا “المغوي” لأن “الإغواء يتم عن سابق تصميم، على عكس السحر”، بحسب قوله.

وقيل إن علاقات جمعته بالمغنية داليدا، ومادلي بامي (الشريكة المستقبلية للمغني جاك بريل) والمغنية نيكو التي أكد ابنها آري بولوني (ولد عام 1962 وتوفي عام 2023)، طوال حياته أنه ابن آلان، إلا أن النجم الفرنسي لم يعترف بهذه الأبوة.

وتشارك الممثل الحياة مع الممثلة ميراي دارك بين عامي 1968 و1983. وقالت ذات مرة “لقد مررنا بفشل فعلي، ولم أستطع إنجاب طفل”. غير أنه قال عند وفاتها عام 2017 “كانت امرأة حياتي، ومن دونها يمكنني الرحيل أيضا”.

وبعد قصة حب مع الممثلة آن باريّو، عاش ديلون منذ نهاية ثمانينات القرن العشرين وحتى العام 2001 مع الهولندية روزالي فان بريمن. وقد أنجب الثنائي طفلين عامي 1990 و1994، هما أنوشكا المفضلة لديه، والتي يصفها دائما بأنها “امرأة حياته” وآلان فابيان.

وفي الثمانين، تقاعد في منزله في دوشي مع هيرومي رولين، التي كان يقدّمها على أنها مدبرة منزله لكنها وصفت نفسها بأنها حبيبته، حتى طردها أبناء الممثل في صيف 2023، متهمين إياها بإساءة معاملته.

وعمل ديلون مع الفنانات جين فوندا، وأنّي جيراردو، وكلوديا كاردينالي، وماري لافوريه، وجين مورو، وسيمون سينيوريه، وكاترين دونوف.

وأول امرأة يشيد بها هي والدته إديت الملقبة بـ”مونيت” والتي أنجبته عام 1935.

وفي مقابلة أذيعت في نهاية عام 2018 عبر قناة “فرانس 2”، تحدث أيضا عن “شغف مجنون” بمريم العذراء.

عزلة عميقة

◄ مسيرته المهنية حققت نجاحا سريعا وصور على مدى سنوات بعضا من أهم روائع الأعمال السينمائية الفرنسية

عام 2015، قالت شريكته السابقة ميراي دارك، قبل أن يبلغ النجم الثمانين “إنّ آلان يعيش في عزلة عميقة اختارها في عالم آخر في الماضي مع كائنات يحبها كثيرا (…) إن ضعف وضعه كان دائما حاضرا”.

وقالت بريجيت باردو عندما بلغ ديلون الثمانين “إنه نسر برأسين… الأفضل والأسوأ”.

وكان ديلون عاشقا للفن وهاويا لجمع اللوحات، والنبيذ، والأسلحة ومقتنيات أخرى، وكان أيضا من أشد المعجبين بالجنرال شارل ديغول، وقد اشترى المخطوطة الأصلية لنداء الثامن عشر من يونيو في مزاد علني لتقديمها لبلاده.

والوثيقة هي خطاب لديغول للفرنسيين يحثهم فيه على المقاومة بثته إذاعة “بي.بي.سي” تحت عنوان “نداء 18 يونيو” وذلك بعد أن رفض الجنرال الفرنسي والوزير في الحكومة الفرنسية ديغول الهدنة التي تفاوض عليها المارشال فيليب بيتان، ثم هرب إلى بريطانيا.

وتصدر ديلون عناوين الأخبار في صيف 2023 عندما رفع أبناؤه الثلاثة دعوى ضد المعاونة المنزلية للنجم هيرومي رولان، التي يُقال أحيانا إنها شريكته، متّهمين إياها بـ”استغلال ضعف” والدهم. وقد رُدت الشكاوى وأُغلق الملف.

ثم خاض أولاده سنة 2024 معارك في ما بينهم عبر الإعلام والقضاء. واتهم الابنان أختهما بالتلاعب بوالدهما الذي كان يعاني من سرطان الغدد الليمفاوية وأصيب بجلطة دماغية عام 2019، وإخفاء حقيقة وضعه الصحي عنهما.

وبعد وفاة آلان ديلون، لا شك في أنّ رواد السينما الذين أحبّوه سيتذكرون الجملة الافتتاحية لفيلم “لو ساموراي”، “ليس هناك عزلة أعمق من عزلة الساموراي، باستثناء عزلة النمر في الغابة… ربما…”.

ونعاه الرئيس السابق لمهرجان كان السينمائي جيل جاكوب حيث قال إن السينما الفرنسية فقدت “أسدا” و”ممثلا ذا نظرة فولاذية”، معتبرا أن ديلون “صمم وسيطر على كل شيء باستثناء نهايته”.

كما قالت المغنية والممثلة أماندا لير إن “فرنسا فقدت نجمها”.

◄ علاقة متوترة مع أبنائه
علاقة متوترة مع أبنائه

 

14