السياسيون على الشاشات ما بين السيرة الذاتية والكوميديا السوداء

لطالما اجتذبت سيرة السياسيين ومواقفهم اهتمام السينمائيين سواء أكانوا منتجين أو كتابا للسيناريو أو مخرجين، ففي مسار أولئك الساسة الكثير من الدراما وما يكفي من الصراعات لكي تجتذب الجمهور العريض، ومن جهة أخرى كان على السينما أن تخلد ساسة آخرين من الذين تركوا آثارا بالغة الأهمية سواء على صعيد شعوبهم أو شعوب العالم.
بالإمكان إحصاء عدد كبير من الأفلام من هذا النوع وبعضها بقي في الذاكرة لكونه برع في تشكيل صورة السياسي سلبا أو إيجابا.
السياسيون المراوغون وأولئك المتآمرون خلف الستار وصانعو الحروب ومجانين السلطة والمستبدون كلهم يجتمعون في بوتقة سياسية واحدة تدفع السينمائيين إلى تقديمهم على الشاشات.
مؤخرا قدمت السينما البريطانية فيلم تشاريوت بالتزامن مع أزمة بريكست التي ما تزال تداعياتها وتعقيداتها قائمة، والفيلم يتحدث عن سياسي مراوغ ومحتال هو لين لوي جونز الذي يقرر أن يفوز في انتخابات ما بعد بريكست بأي ثمن، وبالطبع بالنصب والاحتيال والكذب، تسانده في ذلك زوجته في مقابل مدافعة عن الحريات وحقوق الإنسان وشخصية مبدئية لا تقوى على مواجهة ألاعيبه الخبيثة، والفيلم من إخراج روب سورمان وهو ينتمي إلى نوع من الكوميديا السوداء وهو يعرض في الصالات الآن.

السينما السياسية كرست موضوعاتها لإبراز الوجوه غير المرئية لأولئك الساسة وكشف صفقاتهم المشبوهة ومواقفهم وحتى قناعاتهم
في المقابل وما دمنا في أجواء الانتخابات، هنالك مشهد الانتخابات الأميركية في العام 2016، وذلك ما يتحدث عنه فيلم “لا يقاوم” من إنتاج 2021 ويتحدث عن الصراع التقليدي ما بين الجمهوريين والديمقراطيين في الانتخابات الأميركية وما تشهده الحملات الانتخابية من أساليب ترويج وخداع ونزاع بين الخصوم في دراما تراوحت ما بين إظهار النعرات الأنانية والحماس الشعبي وبين طموح الوصول إلى المنصب بأي ثمن.
هنالك بالطبع المزيد في ما يتعلق بما يطمح إليه الساسة في وسط انقسام مجتمعي ما بين قيم يتشبث بها الناس في القرى والضواحي ومواقف موازية تجاه الهجرة والمهاجرين وضجيج وخطابات ووعود كالعادة، كل ذلك يكتظ فيه هذا الفيلم للمخرج جون ستيوارت.
أما في فيلم “الشيء الأخير الذي أراده” للمخرج دي ريس ومن تمثيل آن هاثاواي وبين أفليك، فهنالك الصحافية الشابة والطموحة التي تجد نفسها في أجواء عاصفة ترتبط بالانتخابات الرئاسية لعام 1984 وهي صفحة أخرى من التاريخ السياسي الأميركي لا تغيب عنها الصراعات التي سادت تلك الحقبة، ومنها فضيحة إيران كونترا، إذ تنهمك الصحافية في كشف ألاعيب الساسة وما يجعل حياة الناس تكتنفها الكثير من المصاعب وهو ما تكرس جهدها له، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى مديرها الذي يريدها أن تكرس جهدها للانتخابات بينما تلوح لها أسرار ما تلبث أن تفتضح وتتعلق بنشاط الولايات المتحدة في أميركا الوسطى، وهو ما سوف يكون له تداعياته اللاحقة وفي كل الأحوال يبقى الصراع السياسي وصورة الساسة الانتهازيين هو الذي يطغى على هذا الفيلم.
في المقابل تظهر نزعات المنافسة في فيلم “متسابق المقدمة” للمخرج جيسون ريتمان الذي يقدم لنا وجها آخر لأولئك الساسة المتخبطين ما بين حياتهم الشخصية وبين اقتفاء الجمهور والصحافة لآثارهم وكل ذلك سوف يجري عشية الانتخابات الرئاسية لعام 1988، حقائق متناقضة تظهر عجز السياسي عن مواكبة اهتمامات المجتمع والصورة التي يريد أن يراها فيهم.
وإذا كنا قد توقفنا عند السياسيين الذين تحكى سيرتهم على الشاشات وفي الغالب يتم فضح سياساتهم وانتهازيتهم وليس تمجيدهم إلا قليل منهم، فإن انعكاسات ذلك السلوك السياسي على أرض الواقع كانت لها هي الأخرى مساحة مهمة فكل ما كان السياسيون يقدمون عليه كان له صدى على الطرف الآخر.
وإذا أردنا مثالا على ذلك انعكاسات الحروب ومنها حرب فيتنام وقرارات الساسة في مقابل رفض الشعب وهو ما تجلى واضحا من خلال فيلم “محاكمة شيكاغو” المعروض حديثا.
في هذا الفيلم تتجلى الحياة الأميركية وهي تموج بالصراعات والمواقف المتعارضة ما بين شتى التيارات وخاصة لجهة تيارات اليسار ودعاة الحريات المدنية والمدافعين عن حقوق السود ثم التيارات المناهضة لحرب فيتنام.
هنا يتوقف المخرج أرون سوركين عند عيّنة مختارة من تلك الحقبة لسبعة من أشرس المعارضين لحرب فيتنام والذين انتظموا في تيارات وجماعات مناوئة للحرب وبما في ذلك تنظيم المظاهرات الحاشدة وخاصة إبان انعقاد مؤتمر الحزب الديمقراطي في العام 1968. إنه وجه آخر للولايات المتحدة شاهده العالم أجمع أو على الأقل سمع عنه، وجهها العنفي وحيث هجمات قوات الأمن ورجال الشرطة والشرطة السرية لا تتوقف عن استهداف التجمعات المناوئة للحرب.
الحاصل أن أجواء الانتخابات من جهة والحروب والصراعات تكشف الوجه الحقيقي للساسة، وبناء على هذا الاعتبار كرست ما يمكن أن نسميها السينما السياسية موضوعاتها لإبراز الوجوه غير المرئية لأولئك الساسة بمعنى الصفقات والمواقف والقناعات التي ليست بالضرورة تكون ظاهر للعيان أمام أنظار الرأي العام.
ومن جهة أخرى استمتع الجمهور العريض إما بنوع من السير الذاتية لأولئك الساسة أو لعرض خلفيات تاريخية جرت وقائعها في ما مضى أو قدمت السينما نوعا من الكوميديا السوداء التي أرادت من خلالها الاشتغال على نوع مطلوب من أنواع السينما السياسية.