السياسة حكايات أيضا

إذا ما كان البعض من الطغاة قد اعتبروا مثالا للوطنية في زمانهم فإن مَن يرى نهاياتهم لا بد أن يتخذ منها عبرة، فهم إضافة إلى فرديتهم المريضة أرهقوا شعوبهم بحياة موجعة
السبت 2025/05/17
أيقونة اليسار وأفقر رئيس دولة في العالم

غالبا ما يُتهم العاملون في المجال السياسي بالمكر الذي ينطوي على قدر من الخبث الذي يجد له البعض تبريرا في الدفاع عن المصالح الوطنية والتمسك بها حتى لو شابتها بعض الأخطاء والتجاوزات. وهو ما يدفع البعض إلى وصفه بالدهاء. ففي ذلك المجال يمتزج الكذب بالصدق فيحل الزيف أحيانا محل الحقيقة.

هناك نوع من السياسيين يقول شيئا ويفعل نقيضه. الظاهر لديه لا يمثل إلا قشرة لو أزيحت لبان كل شيء. والحكمة من ذلك تكمن في فكرة أن السياسي الجيد هو من يتكيف مع تغيرات محيطه ولا يقاومها. إذا هبت عاصفة قوية يُراد لها أن تقتلع كل شيء يقف أمامها فإن أولئك السياسيين لا تجدهم في الطريق بل في المخابئ في انتظار أن تمر العاصفة. النجاة هي عنوان ذلك السلوك.

وإذا ما كان البعض من الطغاة قد اعتبروا مثالا للوطنية في زمانهم فإن مَن يرى نهاياتهم لا بد أن يتخذ منها عبرة. فهم إضافة إلى فرديتهم المريضة أرهقوا شعوبهم بحياة موجعة لا تسرّ بسبب عناد خُيل إليهم أنه التعبير الوحيد عن حقيقة موقفهم الوطني. ولم يفكروا ولا لحظة واحدة بثقل التضحية التي دفعوا شعوبهم إلى تقديمها. ومن المؤكد أنهم يتركون بعد رحيلهم عن السلطة بطريقة ما شعوبا تعاني من العزلة والاضطراب ولا أمل لها في الاستمرار في طريقها.

“كوبا قريبة من أميركا بعيدة عن الله” لا أتذكر من قال ذلك. لقد مات فيديل كاسترو بعد أن حكم كوبا خمسا وأربعين سنة صمد أثناءها أمام الولايات المتحدة وحصارها الاقتصادي على كوبا. لم يكن فاسدا غير أنه كان مستبدا. لم يرق للولايات المتحدة أن يكون هناك بلد شيوعي في أميركا الجنوبية التي كانت دولها عبارة عن جمهوريات موز كما كانت توصف بسبب ولاء حكوماتها للشركات الأميركية التي تحظى بحماية الشركات الأمنية الأميركية. غير أن كوبا صمدت حتى بعد أن كادت تشعل حربا عالمية ثالثة عام 1961 بسبب أزمة الصواريخ الروسية.

آخر حكايات السياسة تتعلق بوفاة رئيس الأوروغواي الأسبق عن عمر 89 عاما الذي قرر ألا يكون أيقونة اليسار في أميركا الجنوبية فقط بل أضاف إليها صفة أفقر رئيس دولة في العالم

ولكن من يزور كوبا اليوم لا بد أن يعود مكروبا، محطم الآمال وكارها للشيوعية. فهي دولة فقيرة في ظاهرها وفي جوهرها. في واقعها وفي خيالها. كوبا حكاية سياسية محطمة. هي ضحية مقاربات السياسة الأميركية التي لم ترغب في أن تقترب الشيوعية من أراضيها وهو بالضبط ما شعر به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حين رأى أن حلف الناتو سيكون بصواريخه قريبا من روسيا بسبب سياسات الزعامة الأوكرانية. وإذا ما استتب السلام في أوكرانيا وانتهت الحرب فإن أوروبا ستنساها، ذلك لأنها لن تملك أملا في ضمها إلى اتحادها مع التذكير بأن سياسيي أوروبا لم يكونوا يفكرون فيها باعتبارها عضوا مستقبليا في اتحادهم الذي زرع فيه سياسيو بريطانيا أسبابا كثيرة للفتنة رغبة في تفتيته.

حكايات السياسة لا تنتهي. آخرها حكاية تتعلق بوفاة خوسيه موخيكا رئيس الأوروغواي الأسبق عن عمر ناهز 89 عاما وهو الذي قرر ألا يكون أيقونة اليسار في أميركا الجنوبية فقط بل أضاف إليها صفة أفقر رئيس دولة في العالم. موخيكا المناهض للاستهلاك والذي تبرع بالجزء الأكبر من راتبه لبرامج الرعاية الاجتماعية قال في نهاية حياته “من الواضح أنني أموت. يستحق المحارب أن يستريح.” وإذا ما تذكرنا نيلسون مانديلا الذي أصبح رئيسا لجنوب أفريقيا بعد أن سُجن 27 سنة فلا بد أن نتذكر أنه هدد مواطنيه الأفارقة بالعودة إلى السجن لو أنهم مارسوا عمليات انتقام في حق السكان البيض الذين هم أيضا من أبناء جنوب أفريقيا.

لا تنتهي حكايات السياسيين.

دونالد ترامب الذي هدد العالم بحرب التعريفات الجمركية صار رجل السلام الذي رشحه البعض لنيل جائزة نوبل للسلام، وقد ينالها في نهاية هذه السنة. أما على المستوى العربي فإن أبا محمد الجولاني يوم كان زعيما لجبهة النصرة الموضوعة على لوائح الإرهاب العالمي صار رئيسا لسوريا ويحمل اسم “أحمد الشرع” وصار بالنسبة إلى السوريين أملا في إنقاذ بلادهم مما لحق بها من خراب وعزلة. لقد التقى الشرع بالرئيس الأميركي بمسعى من وليّ العهد السعودي وأجمل ما قيل عن ذلك اللقاء إن الاثنين، ترامب والشرع مطلوبان للمحاكمة في بغداد. تلك واحدة من حكايات السياسة التي تمتزج من خلالها السخرية بالواقع الرث. وللعراق حكاياته التي تلخص حياته السياسية التي ينقصها الشيء الكثير من السياسة بسبب العصبية الحزبية.

8