السياسة المالية الأميركية تغرد خارج السرب

الجمعة 2015/12/18

يمكن لقرار رفع أسعار الفائدة الأميركية، أن يكون مفاجئا لو نظرنا إلى حقائق الاقتصاد العالمي، من مستويات التضخم القريبة من الصفر في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، إلى سباق التيسير النقدي وحروب العملات المشتعلة بين الكتل الاقتصادية الكبرى.

لكنه كان متوقعا إلى حد بعيد، بسبب التمهيد الطويل للقرار، منذ بدأ مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأميركي) بخفض وإنهاء برنامج التيسير النقدي قبل أكثر من عامين، وتلويحه المستمر برفع أسعار الفائدة منذ ذلك الحين.

ويبدو أن المجلس أصبح مجبرا على اتخاذ القرار، لأنه لوح به طويلا وأخذته الأسواق في الحسبان على أنه في حكم المؤكد، وهو ما أظهرته استطلاعات آراء المحللين.

ويمكن النظر إلى القرار من زاويتي النصف الملآن من الكأس والنصف الفارغ.

من الزاوية الايجابية، لا بد لأحد المصارف الكبرى أن يوجه ضربة استباقية لتحويل اتجاه السياسات المالية العالمية، الغرقة منذ نحو 7 سنوات في سباق تيسير مالي مفرط، وطبع سيولة هائلة من الورق، والتي تنذر بخلق فقاعة كبيرة قد يكون انفجارها في المستقبل مكلفا جدا للاقتصاد العالمي.

ولا يوجد أقدر وأكبر من مجلس الاحتياطي الاتحادي، على ايقاظ العالم من ذلك الإغراق الخطير في التيسير المالي، الذي يهدد مستقبل النظام المالي العالمي.

لكن هل يفكر المجلس في مصالح النظام المالي العالمي ويهمل المخاطر على الاقتصاد الأميركي، حيث أن رفع الفائدة يوم الأربعار بربع نقطة مئوية سيزيد من ارتفاع الدولار، ويقلص الانفاق والاقتراض في الولايات المتحدة، مما يؤدي لانحدار التضخم وسقوط البلاد في دوامة انكماش الأسعار الخطيرة، التي يصعب الفكاك منها.

أما الزاوية السلبية، فهي خطر سقوط الاقتصاد العالمي في دوامة انكماش الأسعار، وهو سبب تسابق الكتل الاقتصادية الأخرى في طبع النقود وإغراق الأسواق بالسيولة، حيث تتدفق تريليونات الدولارات سنويا من البنك المركزي الأوروبي والمركزي الياباني لدرء ذلك الخطر.

بل إن الصين أيضا انضمت الى استخدام السياسات المالية للهروب من تباطؤ الاقتصاد، حين خفضت قيمة اليوان إلى أدنى مستوياته منذ 4 سنوات.

رفع أسعار الفائدة الأميركية لقى بعض الترحيب من داخل الولايات المتحدة وخارجها، لكنه تلقى أيضا انتقادات كبيرة. إذ كيف للمجلس أن يشير إلى احتمال رفع الفائدة 4 مرات في العام المقبل؟ وأن يتوقع ارتفاع التضخم إلى 1.6 بالمئة بنهاية العام المقبل؟

في حين أن جميع توقعاته السابقة طوال 7 سنوات عن ارتفاع التضخم لم تتحقق. ألا يخشى المجلس من أن يؤدي القرار إلى نتائج عكسية وإلى انكماش الأسعار؟

وكيف لرئيسة المجلس جانيت يلين أن تقول إن الاقتصادات الناشئة في وضع قوي يمكنها من تحمل رفع الفائدة الأميركية؟ ونحن نذكر الانهيار الواسع لعملات وأسهم تلك الأسواق في عام 2013 حين أوقفت الولايات المتحدة برنامج التيسير النقدي.

يبدو من المرجح أن تؤدي الخطوة الأميركية إلى عروب واسع لرؤوس الأموال من البرازيل وتركيا وروسيا والهند وجنوب أفريقا وأندونيسيا في الأشهر المقبلة.

إنها ضربة استباقية لتحويل مسار العالم السادر في طبع النقود، وربما لا بد منها لمعرفة ما ستسفر عنه في أرض الواقع.

العالم يبدو اليوم بين هاويتين، إما مواصلة إغراق العالم بالسيولة، التي يمكن أن تخلق فقاعة كبيرة في أسعار الأصول وستنفجر مرة أخرى عاجلا أن آجلا. وربما بنتائج كارثية أسوأ من الأزمة السابقة.

وعلى الضفة الأخرى خطر سقوط أكبر الكتل الاقتصادية في العالم في دوامة انكماش الأسعار ليتسابق الجميع إلى خفض الأجور والأسعار وخفض الاستثمارات، حينها سيبدأ الجميع في تعميق الحفرة لتزداد الأزمة يوما بعد يوم.

فاليابان مثلا سقطت في انكماش الأسعار منذ منتصف الثمانينات ولم تتمكن حتى الآن من الخروج منها رغم سياسة التيسير المالي المفرط. فما بالك لو سقط 80 بالمئة من الاقتصاد العالمي في انكماش الأسعار؟

إنها صفارة إنذار كبيرة من خطر محدق في كل الأحوال، وقد لا يمكن التغلب عليه في نهاية المطاف، إلا بالتوجه نحو سياسة مالية عالمية موحدة، لأننا جميعا في سفينة واحدة وكثرة الملاحين تهددها بالغرق.

10