"السلطة الرابعة" مونودراما تحاول فهم عالم الصحافة من منطلق فني

كأي قطاع آخر، لم تسلم الصحافة من جور الأنظمة السياسية الدكتاتورية، فخلقت من بين العاملين فيها “فاسدين” يتقربون للحكام وأعيانهم خدمة لمصالحهم الذاتية الضيّقة، ومهمشين ملتزمين بأخلاقيات المهنة ويعيشون متاعب وتضييقا ماديا ومعنويا. وفي تونس كانت الصحافة زمن نظام الرئيس زين العابدين بن علي تعيش هذا الحال، وهي اليوم وبعد أكثر من عقد على رحيله، موضوع عمل مسرحي يحاول فك شيفرات الإعلام وكواليسه.
تونس - عالم الصحافة، عالم مجهول بالنسبة إلى شريحة واسعة من الناس، وربما ينظر إليه الكثير من التونسيين على أنه عالم قوامه الأكاذيب والخدع والمؤامرات، وهو عوض أن ينقل الحقائق والأخبار وينير العقول، يوجهها حيث يريد مؤتمرا بأوامر أصحاب رأس المال والنفوذ السياسي.
وبعد ثورة العام 2011، تغيّرت نظرة التونسيين للصحافة ووسائل الإعلام حتى صاروا يلقبونه بـ”إعلام العار” معتبرين أن كل من يعمل في هذا المجال لا ثقة فيه وهو جند من جنود الأنظمة السياسية.
انطلاقا من هذه الفكرة، قدم الممثل التونسي خالد هويسة مؤخرا عمله المسرحي الجديد بعنوان “السلطة الرابعة”، وهو محاولة فنية لفهم كواليس عالم الصحافة.
الصحافي فاسد أو لا يكون
تناقش المسرحية وهي من نوع المونودراما أحوال الصحافة في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي في محاولة لتقصّي حجم الانتهاكات التي شهدها القطاع خاصة في سنوات حكمه الأخيرة، مع حجب العديد من المواقع الإلكترونية والاعتداء على عدد من الصحافيين والتضييق عليهم وعلى المؤسسات الإعلامية المستقلّة.
☚ المسرحية تناقش أحوال الصحافة في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي وخاصة في سنوات حكمه الأخيرة
والمسرحية عن نص جماعي شارك في كتابته المخرج عبدالقادر بن سعيد مع الكاتب والصحافي التونسي ناجي الزعيري.
يتناول العرض سلسلة أحداث يعايشها صحافي شاب طموح عند التحاقه بمهنة الصحافة التي يكتشف وقائع عديدة في كواليسها لا تتبدى للمواطن العادي، مع مزج بين سرد يقدّمه البطل والتمثيل لمجموعة المشاهد التي تجسّد صعوبات المهنة ومتاعبها.
“علي الشامخي” هو الصحافي الشاب، الذي تتكلم عنه المسرحية، وهو شاب طموح، أطاحت ثورة 2011 بأحلامه، بعد أن حلم بشهرة واسعة في عالم السلطة الرابعة، وجد أن الصحافة مهنة المتاعب، كما يصطلح على تسميتها، ولن تقدم له الكثير، فاختار الانضمام لركب المطبلين للسلطة، إلى أن أصبح رئيس تحرير وصار يعمل مع زملاء له يسايرون موجة الولاء التام للنظام السياسي ولأصحاب السلطة المالية، ويسيرون خلف مبررات تؤكد مدى أنانيتهم وافتقادهم للقيم ولأخلاقيات المهنة الصحافية.
واستعان مخرج العمل عبدالقادر بن سعيد بديكور بسيط، يتجلى في مرآة في خلفية الركح، وبعض المؤثرات الصوتية والموسيقية، مصحوبة بإكسسوارات وإضاءة تختلف باختلاف حالة الممثل على الخشبة، لتعكس الصراعات النفسية التي يعاني منها الصحافي علي الشامخي.
واكتفى العمل المونودرامي بالظاهر من عالم الصحافة ولم يغص كثيرا في خفايا القطاع، ولم يتناول سوى صورة الإعلامي الفاسد الذي انساق بمحض إرادته نحو الفساد المهني دون دافع كبير يبرر له ذلك. فكان رجل السلطة الدكتاتورية المفضل الذي يخدم أجنداتها ويقنع الرأي العام بكل سياساتها.
واستغرق تحضير المسرحية حوالي ستّة أشهر للعمل على فكرة الزعيري وإنضاجها لما يتناسب مع لغة المسرح وأدواته، في سعي لتوثيق مرحلةٍ ما زالت حاضرة في ذاكرة المشتغلين في الإعلام بتونس، لكنها ربما لم تنل إضاءة كافية للإحاطة بتفاصيلها. ويعود هويسة بهذا العمل إلى خشبة المسرح بعد غياب دام 12 سنة بسبب انشغاله بالأعمال التلفزية والسينمائية.
عودة بعد غياب
في تصريحات لوسائل إعلام محلية، قال خالد هويسة إنه كان يفكر في العودة إلى الفن الرابع بمسرحية من نوع مختلف لكن شاءت الصدف أن يلتقي بناجي الزعيري الذي كتب نصّا عن عالم الصحافة منذ سنة 2010 فقررا الاشتغال عليه.
العمل اكتفى بالظاهر من عالم الصحافة ولم يغص كثيرا في خفايا القطاع، ولم يتناول سوى صورة الإعلامي الفاسد
وكشف الممثل أن فكرة العمل المونودرامي أعجبته وقد تعددت اللقاءات بينهم لفهم “ماكينة الإعلام” والغوص في عالم الصحافي من منطلق فنيّ، مشيرا إلى أنّه “انطلق في الكتابة المسرحية مع المخرج” في حين “كان الصحافي ناجي الزعيري بنك معلومات بحكم أنه ابن الصحافة ويتمتع بالخبرة والمقومات المعرفية”.
وكشف هويسة أن “مسرحية ‘السلطة الرابعة’ تطرح قضية شاب له طموح للكتابة الصحافية ويمتلك أيديولوجيا وأفكارا غلف بها أحلامه وطموحاته الرهيبة لدخول عالم الصحافة ومن هناك تبدأ رحلته مع الانكسارات ومواجهته لصنصرة مقالاته، وأعماله الصحافية، لكن همّه الوحيد كان البحث عن النجومية والشهرة ليكون صحافيا معروفا في البلاد”.
وقد يبدو اختيار موضوع العمل للوهلة الأولى مختلفاً لأن عشرات المسرحيات التونسية التي عرضت خلال العقد الأخير، ركّزت على الأوضاع التي عاشتها البلاد قبل الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت مدنها في 17 ديسمبر 2010، وانتهت بإسقاط بن علي، وانتقد بعضها عمل الإعلام والصحافة التونسية وعلاقتهما بالمواطن الذي لم يعد داعما لهما ولا واثقا في ما يقدمانه له من مادة صحافية وإعلامية، لكن هذه المسرحية تعد الأولى من نوعها التي تخصص كاملة للحديث عن “السلطة الرابعة”.
ومن الأعمال العديدة التي تناولت واقع الصحافة التونسية خلال النظام السابق مسرحية “سيكاتريس” للمخرج غازي الزغباني التي عرضها عام 2019، و”انفلات” للمخرج وليد الدغسني التي قدّمها سنة 2012، وغيرهما.
ويذكر أن مخرج العمل المسرحي عبدالقادر بن سعيد هو فنان وشاعر ويجمع أيضا بين المسرح والكتابة، حيث قدّم العديد من الأعمال على الخشبة بصفته مخرجاً مثل: “عطيل” و”أنتيغون” و”فاوست” التي أعاد صياغة بعضها بالعامية التونسية، كما شارك ممثلاً في أعمال “برج لوصيف” و”فريدوم هاوس” وغيرها، إلى جانب إصداره عدّة مجموعات شعرية منها “وجهان”، و”الجسر”، و”نقطة خارج المستقيم”.